google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

زوجة الشهيد احمد عبد المحسن :” فارسى قتل الموت مرتين وفى الثالثة نال الشهادة وهو صائم

بقلم الكاتب- محمد نبيل محمد :

من كتاب حكايات الولاد والارض

لم تعلم كيف انتقلت من بيتها إلى المستشفى بعد هذا التليفون الذى اخبرها ان البطل بخير الحمد لله لكنه فى مستشفى كوبرى القبة العسكرى, كانت تلتقط انفاسها الغرقى فى بحر لجى وهى التى تكرر على مسامعها :”ان شاء الله بخير ح يكون بخير ” وتطمئن نفسها وتتمسك بالايمان الذى تعقد عليه الامل, وتقاطع حديث الطمأنينة لنفسها وهى تصعد درج السلم وكأنها تصعد بشق الانفس الى السماء وهى التى لم يطيق صبرها ان تقف امام المصعد تنتظر الضوء المتنقل هبوطا من طابق الى سابقه, وعدت تستبق الريح أو كانت الريح تحملها , حتى استقر بها المقام امام الممرضة لتسألها وهى متحركة ناحية يسار الطرقات وكأن صوت حبيبها الاقرب لقلبها يجيبها من ناحيته بمكانه, وتسبق الممرضة والأخرى قبل ان تنطق بلسانها تشير اليها باليد لتسرع باجابة لهفة الزوجة علها تهدء من روعتها, وتقبض الزوجة انفاسها مع قبضتها على مقبض الباب وتقبض بجفنيها طويلا هى لا تريد ان تتنفس ربما لانه لا يوجد هواء يحيطها ولا ترغب فى فتح عينيها حتى لا ترى كل الصور التى عاندتها وهى آتية وتتالت على خاطرها وهى جاهدة تبعدها وتلقى بها ورائها ولكنها اجتمعت كلها الان , لذا قررت الا تفتح الباب , وناداها الصوت الذى اعتاد ان يقويها :” ادخلى … ادخلى يا رشا , يا دكتورة حبيبك مريض ومحتاج لك” فتجمعت قواها المبعثرة وانفتح الباب , ولا تعلم هى من فتحه نيابة عنها ليريحها من هذا العناء الذى كاد ان يبدد خلاياها كما الليل البارد الذى يقتل ضوء النهار الدافىء, تدخل, تسرع جاثية فى خطوة واحدة توصلها الى سريره, تقبض على يديده تقبلها, وترطبها ببرودة وجنتيها المتجمدتين من نبض متباطىء واوردة متصلبة, متشنجة, وتعاجله بالعتاب وعينيها المملوئين بالوجد وجبهتها الساجدة ناحة الأرض حامدة لله:” تانى … تانى يا احمد, مش كفاية الغام بقى, وتنهمر انهار الدمع حتى كادت أن تتوقف مع العبرات انفاسها المتلاحقة وشارف القلب على التوقف, واستشعر الفارس طريح الفراش بأن عليه ان يقاتل هذا الخوف الذى تملك حبيبته وكاد ان يفتك بها, فاستجمع فواه وجعل بيد تربت على كتفها وانامل الاخرى تتخلل خصلات شعرها فى رقة هادئة وبصوت ثابت, حازم, قال لها :” ده لغم جبان زى اخوه اللى فات بيضرب فى الضهر لو كان راجل كان جه فى صدرى كانت صورتك انتصرت عليه” وضحك و ويقهقه حتى ينقذ حبيبته من انفراد الخوف بها , وتنجح خطته, وتستجمع هى انفاسها وترفع برأسها التى القتها على صدره, وتنظر اليه بعين المحبة تدلل معشوقها بعدما تفحصته كما الام تتحسس وليدها واطمأنت على حاله, وقالت له:” امتى نرتاح من كل ده” أجابها بعفوية الحدس:”قريب جدا … قريب جدا نرتاح كلنا وتطمنى علىّ” اقنعت هى نفسها بتلك الاجابة التى اطاحت بثوابتها!

تهدأ رويدا رويدا انفاسها المتلاحقة, وتقبض على صورة فارسها بكلتا يديها وتضمها الى صدرها وتتكىء براسها عليه, ويبدو انها اعتادت هذه الحال, وتبدأ البطلة الدكتورة رشا حكاية بطلها الشهيد احمد:” ست سنوات عمر خطوبتى مع احمد, كانت مليئة بالدفء والنضج كنت اراه عطوفا وحنون مع حزمه وجده, دائما ما كنت احمد الله فى صلواتى ان اهدانى هذا الخطيب الذى كان نموذجا فى اتقانه لعمله واخلاصه فى عبادته, وكان بارا بوالده مطيعا له حتى انه اخفى عليه ما قد يتصور انه يؤلمه فلم يخبره بعمله بسيناء ولم يخبره عن اصابتيه المتتاليتين ولم يعلم والده بحاله الا بعد استشهاده , لهذا الحد كان بارا بوالده, وكان معينا لاخوته محمد وهيثم واسلام وعبدالعزيز وحسين واسماء ورشا ونورهان حتى ان جميعهم كانوا يتنافسون على حبه والقرب منه وقلبه كان بتسع بالحب لهم جميعا, وكان سمحا رئيفا بجيرانه ولكل من يطلب منه معروفا وان لم يكن على صلة ما به”.

وتعود الزوجة البطلة لتسرح مع فارسها طويلا ومرة أخرى تنظر لصورته وتشرع فى الحكى عنه منذ ميلاده وكأنها امه البديلة عن والدته التى توفت وهو فى سن الثانية عشر:” ولد حبيبى فى الثامن والعشرين من يوليو لعام 1976 وبعد مهده التحق مدرسة ابن رشد الابتدائية والتى أطلق عليها أسم الشهيد بعد استشهاده,

وفارقته والدته وهو مازال صغيرا بمدرسة الأميرية الاعداديةو ثم التحق بمدرسة النقراشي الثانوية حتى اقترب من تحقيق حلمه والتحاق بالكلية الحربية ١٩٩٥ ثم تخرج فيها ١٩٩٨ بالدفعة ٩٢ حربية بسلاح المشاة وأقبل على العلوم العسكرية بصقل معارفه التخصصية ونال ماجستير العلوم العسكرية ٢٠٠٩ ولم يكتفى طموحه عند هذا الحد بل سعى لنيل الدكتوراة فى فلسفة العلوم العسكرية واتم دورة إعداد مبكر للقادة وتقدم لبعثات حفظ السلام بقوات حفظ السلام بالسودان ٢٠١٠ ونال ماجيستير العلوم العسكرية من كينيا ٢٠١٥ وتدرج فى وظائفه القيادية حتى قائد كتيبة مشاة بسيناء بكرم القواميس ثم قائد قطاع الجورة بالشيخ زويد, ويبدو ان حبه لسيناء مكنه من قتل الخوف وربما انه بالفعل قد قتل الموت مرتينو كانت المرة الأولى عندما انفجر لغم بمدرعته وكان متجها مع زملاءه لتنفيذ احدى المهام بكرم القواديس واصابه انفجار اللغم الذى كاد ان يودى بحياته بشظايا بالساقين اكتوبر فى ٢٠١٧ وعندما ذهبت اليه بمستشفى كوبرى القبة العسكرى وكان مؤمن صغيرا ممسكا بيدى جزعا مما قد يراه فى والده الذى كان صاحبه وليس ابوه فقط, وافلت يده من قبضتى واسرع يقبل يمين والده وما ان رأيت هذا المشهد حتى توجهت بقلبى الى الله شاكرة ان من على بنعمة الزوج المحب لوطنه والابن البار بوالده , وقال لى احمد :” الان بعد بوسة مؤمن وضحكتك الحلوة ديه انا خفيت خلاص” ويحتضن بيمينه مؤمن وبيساره راسى ويضمنا الى صدره ويقول للسماء:” الحمد لله فى مكافأة يا ربى على اللى عملتوا لبلدى باخلاص اكتر من كدة ابن صالح وزوجة صالحة الحمد لله يا ربى ” ويربت على كتفى ويقول :” انتوا كدة ادتونى قوة اروح سيناء تانى وتالت” وكان يذهب على الكرسى المتحرك لزيارة رجاله المصابين, وهم فى فرح شديد من زيارة قائدهم لهم حتى ان احدهم ذكره :” فاكر يافندم بعد الانفجار سيادتك قلت لينا أيه؟” فهز البطل راسه وكأنه يرى ما يحكيه المجند المقاتل و ويعاود المجند المفاتل يذكر نفسه وزملائه وقائده بمن سبقوهم:” قوموا يا رجاله بصوا ابطالكم الشهداء عملوا ايه؟!” ويبكى القائد ويبكى رجاله بعنبر الجنود على هؤلاء الذين سبقوهم بالإيمان .

أما الإصابة الثانية فكانت بقطاع الجورة بالشيخ زويد بسبب انفجار عبوة أدت إلى كسر بضلعين بقفصه الصدرى وكسر بفقرتين من العمود الفقرى وتهتك بالرئة وكانت فى اغسطس ٢٠٢٠ قبل الاستشهاد بستة اشهر, وتلك الاصابة الثانية هى ما اخذت بكل قواى وخارت معها عزيمتى وكطبيبة انا اعلم انه من المستحيل ان تعود له لياقته الصحية بسب الكسر المضاعف بفقرتين بعموده الفقرى ربما تتعافى اصابته بكسر الضلعين ولكن تهتك الرئة سيترك عليه اثارا مستمرة بالشعور بالاجهاد, وكنت انصحه يوميا طيلة بقاءه بالعلاج بالمستشفى ان يكتفى بالمرتين الذى كاد ان يفارقنا بسببهما , وانه قد ادى ما عليه باخلاص تجاه وطنه, وفى ذات مرة سمعت طبيبه المعالج يقول له:” كفى يا بطل , انت ماشبعتش عمليات فى سيناء على الارض وعمليات هنا فى المستشفى على السرير” فرأيته ينادى على الطبيب ان يقترب منه ويهمس اليه:” يعنى يرضيك يا دكتور بعد كل ده اموت على سريرى زى ما قال سيدنا خالد ابن الوليد بعد كل تلك المعارك يموت خالد على سريره ” وهنا علمت ما ينتويه احمد وما يخطط له , فهو قد انتصر على الخوف وقتل الموت مرتين قى سيناء, فلا شك انه يريد ما هو اعظم من الحياة”.

تصمت الزوجة البطلة وتقول تخيل كل هذا وهو كان دائما ما يقول :”انا والد وزوج غير صالح لاننى اترك رعاية اولادى لك وحدك, ودائما ما كان يعتذر لى فى كل مرة يتصل بها علينا من سيناء ويقول سامحينى انا عارف انى مقصر معاكم بس انا عارف انك ادها ومتاكد ان ربنا ح يعوضنى فيكم كل خير”

وتتذكر:” عندما مرضت انا وابنائى مؤمن وملك ومحمد بالكرونا كان يتالم انه فى سيناء ولا يستطيع ان يفعل اى شىء من اجلناو ولما استشعرت انه يجلد نفسه لبعده عنا قلت له:” انت مخلص لربك فى سيناء تفتكر حا يسيئك فينا , ابدا يا احمد احنا كويسين ويجى ايه اللى احنا فيه الان ادام اللى انت فيه ربنا يحفظك لينا وترجع بالسلامة”

وتتذكر ايضا:” تخيل عشت سبعة عشر عاما مع احمد قبل استشهاده بايام حسباناه مع بعض ما طلعش منهم اكتر من خمس سنوات هما اللى قضاهم معانا, لدرجة ان اكبر فترة اخدها اجازة كانت فى حج عام 2017 والتى تمنى انى اكون معاه ولم نوفق فى ذلك, وتانى فترة قضاها معانا بعد ما نزل مرة اجازة وزرنا ماما وكان عندها اشتباه كرونا وبعد ما وديناها المستشفى انتقلت العدوى له واضطر للبقاء بالبيت لمدة عشرين يوما حتى لا يعدى زملاءه بالكتيبة, وبع ان تعافى وانقضت فترة العدوى سافرالى وحدته بسيناء وقبلها اتفق معى على صيام كل رجب وكل شعبان عندما قلت له نصوم انا والاولاد هنا كل اثنين وخميس وانت صوم معانا وانت هناك فى سيناء”.

وتتردد البطلة فى استكمال حكيها عن فارسها ويبدو انها اقتربت من امر جلل فاخرجت الصورة من حضنها لتنظر اليها وتشرع فى اكمال حديثها معه وكأنه شاخص امامها :” فاكر يا احمد لما اتفقنا على الصيام كل رجب وكل شعبان علشان لما تفطر افطر معاك انا والولاد, ساعتها قلت لى :” كفاية عليهم اثنين وخميس خليكى انت معايا كل يوم وعلى طول ان شاء الله” كنت تقصد ايه بقى من خليكى معايا على طول؟! , مين بقى دلوقتى اللى نقض وعده وساب التانى؟!, تصمت المرأة , وتقترب من صورته كانه يهمس اليها بما لن يسمعه غيرها, فتبتسم وتقول بدلال :” ما انا عارفه بس كنت عايزة اسمعها منك, انت عارف ان كل شوية احب اسمع الكلام ده منك” وتبتسم المرأة وتبرق الانوثة فى ناظريها , وتورد الوجنتين , وتحاول ان تخفى هذا الوله وذاك الوجد, عبثا بلا جدوى, وتعود لتحكى:” خرج مع زملاءه فى مهمة مداهمة لاحد الاوكار شديدة الخطورة ولعلمه بخطورتها امر رجاله الا يدخلوا معه هذا الوكر وعليه ان يستشفه أولا خوفا عليهم , وإذا بشراك خداعى ينزع صمام الامان عن اللغم, ويدوى الانفجار ممزقا جسد حبيبى, صاعدا بروحه الطاهرة التى اشهد امام الله على اخلاصه فى عمله لله ولصالح وطنه” وترفع البطلة رأسها الى السماء محدثة ربها :” اللهم تقبله عندك من الشهداء واكرمه بما وعدته فى حجه يوم ان وقف لك بعرفه, فهو قد اعلمنى انه قد اسر اليك بطلب الشهادة ويخلص فى سعيه اليها, حتى انه قد احضر من المدينة عطر واختصه لنفسه ليوضع على نعشه تقربا فى حب سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم وبارك ,على ان يكون فى رفقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبارك, فاكرمه بالصحبة يا كريم”.

عن admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *