google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

زوجة الشهيد محمد عبد المتجلى :” كان بيدعى ربنا يستشهد فى سيناء ونال ما اراد وهو صائم”

بقلم- الكاتب محمد نبيل محمد :

من كتاب حكايات الولاد والارض

كان معى على الطرف الثانى من الهاتف الذى تركناه مفتوحا هذه الليلة بطولها حتى نأنس ببعضنا, وبعد قيام الليل قال لى :”فى السحور بركة “, فقلت له :” هل نويت الامساك فى هذا اليوم الحار؟” ,,, وقبيل بزوغ فجر الأول من محرم لم اكن أعلم أن شمس هذا اليوم ستشرق ببشارات كان يناجى بها ربه, فقد قضى ليله قائما فى تهجد مع الله يدعوه بما لا أطيق سماعه, ويتذلل فى خشوع مكررا وملحا فى رجائه, تقطرت عند سجوده على أرض سيناء – التى كانت كلها له سجادة صلاة – بل سالت دموع الإخلاص فى الرجاء واختنقت العبرات بإنفاسه فلا صوت عاد يسمع ولا حركة منه إلا السكون الخاشع, فغابت حتى تنهداته وسكت انينه, كنت مذهولة, بل متصلبة العقل والحركة وكأننى ظل له أو انعكاس صورته لحاله, تماما كنت مثله, لكن شيئا بداخلى يسير بل يعدو عكس اتجاهه, صوتا ما فى أعماقى يردد على مسامعى :” لا يا رب , ادعوك بكل صفات جلالك وجمالك أن تجعله حيا للأبد, فأنا لا أطيق الدنيا إن لم يكن هو فيها” ووجدتنى أكرر وألح أنا أيضا فى سحر الليل البهيم حتى تنفس الصبح وتسللت أشعة الشمس معلنة تبدد ظلام هذه الليلة الطويلة كما الاعوام الكبيسة, الثقيلة كتلك الرواسى من جبالك يا سيناء, وعندما انتهى من صلاته وانتهيت أنا أو كدت! لملمت ما تبقى منى بعد مُضى هذه الليلة واستجمعت بعضا من أنفاس متصعدة متناثرة لأبرق لحبيبى بصوت يجتهد فى اخفاء نحيبه:” خلاص يا حبيبى انهيت صلاتك ؟” فبادرنى برد مباغت كالطلقات التى أكرهها ومازالت تفزعنى عندما تهجم على سمعى, وقال :” خلااااص الحمد لله خلااااص” وحينها تذكرت انا ايضا ما كنت اناجى به ربى ” … يا رب , ادعوك بكل صفات جلالك وجمالك أن تجعله حيا للأبد” فانقبض قلبى بشىء حاولت جاهدة اخفاءه وصارعنى هذا الشىء ليشخص أمام ناظرى, وكلما اشيح عنه أجده كأنه يترصدنى, حتى قاطعه حبيبى وانقذنى من خيالاتى وقال:” اصبحت صائما فى أول محرم الحار جدا, لعلى أشرب عند ربى” فأغشى علىّ.

تحكى الزوجة الشابة البطلة عن شريكها الشهيد:” … محمد محمود عبد المتجلى من مواليد الخامس من مارس 1977 منذ طفولته وهو يحلم بأن يكون ضابطا بالقوات المسلحة ومثله كمثل كل الأطفال يلعب بالمسدس والبندقية حتى أن اشكال الميكانو كانت للطائرات والدبابات , وكانت كذلك كل رسوماته البريئة تتلون بعلم مصر, وظل حلم الانضمام لرجال القوات المسلحة يبكر معه حتى شارف على تحقيقه عندما أنهى الثانوية العامة بنجاح وتفوق ونظرا للياقتة البدنية العالية وتكوينه النفسى المتزن بعد أن تسلم ملف التقديم بالكليات العسكرية تحقق حلمه الذى لازمه الطفولة والشباب وعندما علم بقبوله ضمن طلبة الكلية الحربية كانت سعادته لا توصف, وكان قد تقدم لكلية الدفاع الجوى ولميوفق فى العام الاول وعند قبوله بالكلية الحربية كأن جزءا كبيرا من حلمه أصبح حقيقة وتفوق الطالب محمد عبد المتجلى ضمن طلبة الدفعة 93 وتخرج فى الكلية الحربية 1999 بسلاح المشاة برتبة الملازم وكانت خدمته الاولى بالسلوم طيلة خمس سنوات , وعند ترقيته لرتبة النقيب انضم لمركز تدريب المشاة بدهشور وبعد انتقاله للقاهرة بأشهر معدودة تزوجنا فى الثانى من نوفمبر 2006, ولم يمضى من زواجنا سوى ثلاثة أشهر إلا والتحق ببعثة حفظ السلام بالسودان ضمن قوات الامم المتحدة نظرا لتفوقه فى العلوم العسكرية واجادته للغة الانجليزية ولياقته البدنية العالية وترشيح قادته له , ورغم اننى قلت له قبيل سفره “اننى احمل له خبرا سارا, وان الله قد من علينا ببشائر عن طفلنا الاول”, الا انه قال لى :” الان وقد اطمأننت عليكى لان جزءا منى معكى” , وكان لوقع هذه الكلمة أثرا بليغا فى نفسى, ورغم ان الاحداث لم تكن ملتهبة كما الفترات التالية بسنوات قليلة الا اننى كنت مرتعبة من مجرد ابتعاده عنا, وبالفعل اكرمنا الله بطفلتنا الاولى هاجر ووالدها فى مهمة عسكرية خارج البلاد, ورغم انه لم يفرنى بالاتصال الدائم الا ان مجرد سماعى لصوته كان يجعلنى اشعر بالآمان طلية هذه الدقائق والتى هى عمر المكالمة, وبعدان ينتهى الاتصال معه اعود لحالة من الغربة لم اعتاد عليها , وانقضت السنة بأكملها كأنها دهرا وعاد حبيبى إلى مصر والىّ, ولا انسى اليوم الاول لعدته فقد ظل يقبل هاجر ويلاعبها وكأنه يعوض بعاده عنها وكان عمرها عند عودته ستة أشهر, وظل بوحدته الثانية بدهشور لمدة خمسة أعوام, تغير بعدها حال البلاد والعباد, واضطرته الظروف العصيبة للخروج مع زملاءه الى ميادين مصر وكانت خدمته فى التأمين بمدينة السادس من اكتوبر, وهنا كانت المواجهة الاولى له لاعداء الوطن والانسانية عندما ساعد الارهابيون الفارين من السجون فى تهديد روع الامنين من اهالى المدينة, وتحصن الارهابيون بمدرسة توشكى وامطروا الاهالى بوابل من الرصاص وتعامل معهم البطل محمد عبد المتجلى ومعه رجاله من قوة التأمين واستشهد على إثر ذلك الشهيد المجند احمد محمد مسعد من رجال البطل , واذكر ان تلك الواقعة لم تمر بسلام لا على زوجى ولا علّى, فهو للمرة الاولى يفقد احد رجاله وللمرة الاولى ارى الموت يقترب من حبيبى, انا مؤمنة بالقضاء والقدر, لكننا جميعا لم نعتاد صوت الرصاص فى الشوارع ولم نعتاد فقدان الأحبة, ومنذ ذلك اليوم وفارقنى النوم , الذى كان يؤرقه الجزع والخوف من القادم, وبدأت نشرات الاخبار هى الهم الاول لىّ, وظلت عيناى تتجنبان ما يبث فى شريط الاخبار عن احداث الاستشهاد, لكنه الخوف الذى سيطر على حياتى, ورعم ان حبيبى فى مصر وليس فى الخارج كما كان فى السودان الا ان الاحداث الجارية زادت من قلقى عليه , وهو الذى ظل يردد لى:” اطمنى (قل لن يصيبنا الا ما قد كتبه الله لنا), كان قوى الايمان بربه وشديد الحب لوطنه, كثيرا ما يتحدث عن احوال البلاد وما آلت اليه, ويتحسر على من ارتقوا لبارئهم من الرجال ممن يعرفهم من دفعته أو من زملاءه الاكبر أو الاصغر منه, ويقول:” اتعجب من ان يكون الرصاصة من داخلنا ونحن اللذين توقعناها من هناك , من فعل هذا بمصر؟!” ويأتى يوم عصيب جدا إذ حكى لى عنه زوجى الشهيد:” اشتعلت النيران بهايبر وان بالشيخ زايد فى محاولة من الارهابيين بنشر الذعر والترويج لضياع الامن والامان من مؤسسات الدولة الشرطية والعسكرية ولفقدان الثقة فى استعادة الاوضاع لما كانت عليه ليتحقق لهم ما كانوا يخططون من مكائد وسوء للوطن, وبهدف تغطية أعمال الخارجين على القانون بسرقة المحلات والمواطنين, واستطاع هو ومن معه من زملاءه والرجال من عناصر قوة التأمين فى معاونة أجهزة وقوات الاطفاء فى اخماد الحرائق وفرض أوضاع التأمين على الموقع بكامله واقشال مخطط الارهابين باستخدام الخارجين على القانون فى اسقاط الدولة” كانت تلك هى اراءه وتحليلاته لما يدور فى هذه المرحلة العصيبة, واتذكر وطنيته الشديدة عندما كان يقول لى :”انا وكل رجال الجيش على قلب رجل واحد ومستعدين نموت كلنا ولا يتأذى مواطن واحد”.

وانتقل بعد تلك الاحداث الى بورسعيد وحصل على دورة اركان الحرب بتفوق لحبه فى تولى الوظائف القيادية وشارك فى تلك الفترة بتأمين الانتخابات الرئاسية بمحافظة بورسعيد, وعقب اعلان فوز الرئيس عبد الفتاح السيسى فى الانتخابات, وبعد نجاح البطل مع زملائه فى مهام التأمين انتقل الى الاسماعيلية برتبة المقدم اركان الحرب, وكرمته القوات المسلحة ببعثة الحج فى 2017, وكان يتمنى ان اكون معه فى هذه الرحلة وعندما سألته عن دعواته امام بيت الله قال لى :” دعوت لك ولهاحر وانهار ومحمود ووالدينا ولمصر بالسلام” وقاطعته وبماذا دعوت لى قال:” هذه الدعوة ستعلمينها قريبا لكنى دعوت لك اكثر من اى انسان آخر حتى تتحملين ما هو قادم” تعجبت جدا وقلت له:” هو فى اصعب من كدة ربنا يحفظك يا حبيبى ويحفظ بلدنا, طيب انت كمان دعيت لنقسك بايه؟” فقال لى”ديه دعوة واحدة بينى وبين ربى, ادعى لى انه سبحانه وتعالى يستجيب لى وتتحقق” وحينها سكت الكلام أو غاب طويلا وعندما استجمعت شتات فكرى الذى اطاحت به الاوهام كأنها امواج بحر هادرة تأخذ بقلبى وتصدمه على صخور هذا الشاطىء القريب – جدا – فكنت اردد مع نفسى ما قاله حبيبى محاولة ايجاد تفسيرا يتناقض مع شخصيته المحبة للناس والمتعاطفة مع ظروف الاخرين وهو الذى يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة, وهو الذى يحكى لى عنه زملاءه من الضباط ورجاله من الجنود انه دائما مقبلا على مواجهة التكفيريين بسيناء , وهو الذى كان يقضى كل اجازاته فى زيارة زملاءه بالمستشفى او عند اسر الشهداء يجرى على قضاء مصالحهم, وعندما اسأله عن بقاءه معى ومع اولاده يقول :” انت افضل منى انت بمائة رجل” وهو الذى يبيت مع ربه قائما يصلى يجتهد بدعاء واحد اسمعه ويبكينى سماعه, وكل تلك المعطيات القاتلات كن يقتلن الأمل لدى وكن يبعثن برسالة واحدة هى لا تفسر دعوته لنفسه بل تفسر دعوته لىّ!, وشارك فى العملية الشاملة منذ2018 وظل بسيناء يتنقل فى مهامه بين قرى رفح حتى ترقى لرتبة العقيد اركان الحرب.

كان بار بوالديه لدرجة انه كان يزور اصدقاء والدته – ماما انهار – بعد وفاتها , وكان محب لاخيه احمد لدرجة انه كان يعتبره ابنه رغم ان فارق السن بينهما اربعة اعوام, وكان محب لوالدى وعندما توفى كان مصر على تواجد والدتى معنا فى المنزل وكان يناديها بماما.

عندما استشهد العقيد احمد عبد المحسن قبله بستة اشهر قال لى :”يا سالى انا حاسس ان على الدور, يا ريت انولها وانا صائم”.

وقبيل انقضاء ليلة لن انساها اتصل بى حبيبى وطالت مكالمته على غير عادته, وسألنى مرارا عن احوالى وهل انا محتاجة لشىء , وهل انا ينقصنى شىء, وانا اكرر نفس الرد لا ينقصنى ولا احتاج الا لوجودك بجوارى يا حبيبى, وهو يقول جملة تمزق قلبى وتخلعه من فؤاده:” انا عارف انى كنت بعيد عنكم لفترات طويلة بس هانت خلاص قريب اوى ح اكون جنبك انت والبنات ومحمود قريب جدا” واقاطع هذا الكلام الذى اكرهه من شدة محاصرته لى فى وحدتى وفى ليلى اهرب منه بالانشغال بتربية الاولاد وبالعمل وبالعبادة علّى استقوى بكل هؤلاء على هذه الكلمات المقيتة , هى تعلمنى وانا اعلمها من شدة اقترابها منى أو ربما من تردد صداها فى اعماقى, كان هناك صوتا دائما ما يخيفنى من القادم, واعود انتبه لكلام حبيبى على التليفون, وأقل له :” انت ما سألتش على هاجر وانهار ليه؟ وكل كلامك عنى” فقال بتلقائية تخلو من الغزل أو المجاملة :” انت الاهم, انت الاهم عندى وعندهم ولما تكونى بخير هما ح يكونوا بخير, ربنا يعينك يا حبيبتى على المشوار ده” وتنتهى المكالمة باعلانه نوايا الصوم عن اليوم الاول من محرم وأقل له:” بكرة حر يا حبيبى صوم يوم تانى” فيلقى الى بحمل ثقيل:” يا حبيبتى كويس ان بكرة حر علشان اشرب كتيرمن عند ربنا” واتحامل على نفسى معلنة رفض استمرار هذا التصال الذى يقربنى مما اكرهه وارفضه, فأنا لا اطيق انا اعيش لحظة واحدة دون ان يكون فى هواء الدنيا عبير حبيبى , فرغم بعاده سواء كان داخل مصر أو خارجها الا اننى لم استشعر لحظة بأننى لا اتنفسه , وهو الذى كان عندما احادثه يتعجب من أمرى ويقول لى :” انت سامعانى بقول ايه والا سرحانة ” فتعيدنى ربتة يده الناعمة على كتفى الى دنيا الناس, وانا التى كنت فى دنياه وحده, اروح واجىء كطفلة تلعب بأزهار الربيع وفراشاته.

وفى 2021 اصبح التاسع من اغسطس الحار كلهيب جهنم يوم الاثنين – المبارك بقبول الاعمال الصالحات- الاول من محرم , وبعد اشتباك بالنيران مع اعداء الله واعداء الانسانية ارتقت روحى مع روح حبيبى لبارئها وبقيت – انا – جسدا فقط , ولم تمر الا ليالى خمس وعلمت ان الله قد انبت من محمد حبيبى محمد ثانى فى احشائى ليكون مع اخوته امتدادا له وعوضا من الله يحمل اسم حبيبى الشهيد.

 

 

 

 

 

 

عن admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *