google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

حكايات الولاد والارض : والدة الشهيد عماد امير:” ابنى قالى سيناء ح تعطيكى شهادة ان ابنك راجل يا امى”

بقلم الكاتب محمد نبيل محمد

 

أغلق الطبيب عليها باب الحجرة واشار بيده بالصمت التام وهمهم بكلمات لم افهمها, لكنها كانت تعنى عند الممرضات اللائى كن حولهان حياتها على حافة النهاية وان الطب قد حار فى ايجاد متنفس لبصيص أمل فى الحياة, واسرع الخطى مبتعدا عنى وكأنه لم يشأ ان يواجهنى بتلك الحقيقة الصادمة, واقتربت من احداى الممرضات التى كانت قد صاحبتنى ليس لقسوة الحالة الصحية التى كانت تمر بها ابنتى بل لأننى فى ذات ليلة شتوية باردة جدا لم يكن معى سوى شال اهدانى ايهاه عماد فى عيد الام وكان ذا قيمة غالية لدى لانه اخر ما تبقى لى منه, وكانت هذه الممرضة قد تولت نوبتجيتها مبكرا ليلة عوضا عن زميلتها التى مرض طفلها ما استلزم بقائها معه فى المنزل, وتقدمت هذه الممرضة لتحل مكانها, ولم يكن فى حسبانها التجهيز لهذه الليلة الصقيع, فلاحظت انها كانت ترتعش من شدة نحافتها الهزيلة على محاربة هذا البرد القارس, فنزلت من جوار ابنتى من على سريرها الذى لمتكن عليه سوى هذا الغطاء الوحيد , الخفيف , المزركش برسومات كانت تشغلنى فى تتبعها أكثر من اهتمامى بالتدفئة لى مع ابنتى الممددة على سريرها فى عنبر هذا المستشفى العام, فتركته لابنتى التى كانت بين ايادى ربها تنتظر وننتظر معها انقضاء الاجل, وعندما تكرر دخول تلك النحيفة الشابة لتطمأن على حال ابنتى التى لا حول لها ولا حركة اللهم الا صوت هذا الجهاز الذى نصحونى بمتابعته من خلال هذا الصوت المتقطع الذى يجعلنى أعد رناته واحدة تليها ثانية وثالثة, لانهم قالوا ان بقاءه يعنى دلالة على اسبتقاء ابنتى معى لبعض الوقت من الحياة التى لم املك ان امنحها منى لها , وركزت سمعى عند صفارة الجهاز ألحظها وأتتبعها بعناية , واقتربت من تلك الفتاة المسكينة وفى صمت متبادل بيننا استسلمت على ان اضع هذا الشال على كتفها فإذا به يستعمر كل جسدها الصغير, وهى تنعم بدفئه, وحالها يدلل على استعادتها الحياة من جديد من ذاك البرد الذى قتله هذا الشال الغالى, ونوعا من المجاملة اقتربت من ابنتى وتفحصت الاجهزة ثم عادت تلتفت ناحيتى وتقول بهدوء مؤمن:” كله بأمر الله , هو وحده صاحب المعجزات” ثم قبلت جبينها فى وداع لم تستطع ان تخفيه عن أم استسلمت لقضاء بارئها فأنا اعلم هذا الموت الذى زارنى سابقا فى قعة من قلبى, اقتربت البنت الى جوارى وجلست ملتصقة بى معلنة ببدء حديث طويل نتشارك فيه اذلال هذا البرد وربما مع وقت قصير لم نعد نعطيه اهمية تذكر حتى ولى ادباره ورحل وحلت الحكايات الدافئة التى بدأتها

بالسئوال عن سر احتضانى لهذا الشال, العجيب, الذى لم تظن ان بركاته ستحل عليها سريعا بهذ الشكل بالدفىء والطمأنينة والاحتواء, قلت لها:” هذا الشال اهدانيه اعز مخلوق على قلبى وقلب كل من عرفه فى هذه الدنيا, هو الشهيد عماد امير رشدى يعقوب الذى حل ضيفا علينا فى الخامس والعشرين من اكتوبر 1998 وكنا فى مساكن القطامية من الاسر الغنية بالرضا, والسعيدة بحنان ابنها على كل افرادها, اما عن الحياة وقساوتها فكانت تمر يوما بيوم, حتى تسلل المرض العضال لجسد زوجى وشيئا فشيئا لم يستطع سوى اداء بعض الحركات البطيئة التى تعينه على قضاء حاجاته الضرورية جدا, وامير لم يكمل بعد تعليمه فكان فى الاعدادية, ورغم انه الاصغر بين اخوته هذه الملقاة على سريرها تنتظر ميعاد ذهابها اليه , وولد اخر تكفل بالنفقة على اسرتيه الكبيرة والجديدة التى تضم زوجته وولديه, ولأن الحال كان أقسى من تحمله وحده, ترك عماد تعليه بمدرسة القطامية الاعدادية التى ظل قلبه معلق بها حتى بعد استشهاده فأطلقت الدولة اسمه عليها رحمة بهذه الروح التى ابت ان تفارق مدرستها التى اجبرتها الظروف على فعل ما لا تطيقه, وبدأ عماد يعمل نهارا ويقضى ليله فى عمل أخر , ويرفض اية مساعدات معلنا ميلاد رجولة مبكرة وأدت طفولته وتخطت مرحلة الصبا, وتحمل عماد تكاليف علاج والده والنفقة على البيت من كافة لوازمه وكفر بأية حاجة له قد تلح عليه فى هذا العمر الصغير حتى غابت عنه الراحة للأبد, وانا لم استطع فعل شىء امام هذا الرجل الصغير, واستسلمنا جميعا بأن نستظل بظله اليانع ورغم ان كل شىء لدينا كان قليل وصغير ونادر الا هذا الظل من ذاك السند الفتى الذى كان ممتدا كأشجار الجنة يسع الجميع بعطاءه من الحنان بقدر عطائه من تلبية أوامر الحياة, واشتد العود سريعا وتعلم عماد قيادة السيارات وتحامل على نفسه بالعمل المضاعف حتى فى مساء يوم كان يعزف على باب شقتنا طربا حتى اسرعت وفتحت له , فاحتضننى , وظل يرقص ويغنى, وانا ابادله السعادة بفرحة تغمرنى فأنا التى عزت هذه الفرحة ان اراها على نواجز وليدى الرجل, وندرت زيارات السعادة لبيتنا اللهم الا على فترات متباعدة كتباعد الحقب الزمنية, أو كمسافات الزمن بين مجرات السموات البعيدة!, وبعد ان اكتفى من رقصه وغناه , وتركته حتى يهدأ فقد كنت اتمنى له هذا الفرحة من زمن بعيد لكننى لم استطيع ان اجلبها له سوى بالدعاء الى الله ان يعوضه ويكافئه بما يليق بكرم الله – وتسكت السيدة وتخنق عبرة تعصرها وتأبى الا ان تأسرها ولا تطلق لها العنان – وتعود لتحكى للفتاة المصغية بمتعة متناهية , واخيرا اخذنى من يدى وقال لى :” تعالى افرحك شوية يا ست الحبايب, وانا مستسلمة لحال السعادة الذى كنت احلم به واعلم انه لن يأتيه الا فى الحلم , لكنها الرأفة من الله, والطبطبة منه على قلبى ان يجعلنى ارى ولو لمرة هذا الصبى الرجل سعيدا لهذه الدرجة, وقال لى :” غمضى عينك وما تفتحيش الا لما ابوس ايدك” وانا منصاعة لاومر قطعة من قلبى , ومشيت معه لخارج المنزل الى الشارع وانا ارى بجلاء بعين حبيبى ولم اتعثر فى درج او حجر وكأن نظرى قد عاد شبابا عندما تركت البصر لحبيبى, وما ان استشعرت قبلة من ثغره الذى يشبه ينبوع الماء فى وسط نهار المفازة القاحلة, فتشبع جسمى حتى ارتويت من يديى , واخضرت روحى حتى كدت ان املك الدنيا بقبلة حبيبى, وما ان ابصرت الا واطلق الزغاريد وراء بعضها البعض تعانق الرياح تزف الى الجميع فى كبرياء – كان بلا مبرر سابقا- ان ابنى اصبح من المُلاك, ابنى الان لدية سيارة هى مصدر رزق دائم ومعتبر ويصون له كرامته , وقال لى ” صلى لى يا امى وباركى العربية علشان ربنا يدينى واسدد اقساطها” وسألته :” قولى يا عمدتى, جبت فلوسها منين؟” قال “من عند الله , دخلت جمعية مع اصحابى وقبضونى الاول ودفعتها مقدم ” قلت :” يا بنى كدة حمل تانى عليك” قبل يدى ثانية ونظر الى السماء وقال فى ايمان الرهبان:” انا عارف انه معايا” وطلب ان يكون اول مشوار له هو ان نتنزه سويا كالخطاب, ودللنى , واسقانى , واطعمنى, وفى نهاية الليل قال لى :” صلى لى يا امى انا ح توكل على الله ابدأ شغلى عليها”, وبدأت الحياة شيئا فشيئا تهدىء من روعتها علينا , وعندما قلت له :” يا عماد مش ناوى تفرحنى يا ابنى بيك؟” فأطلق رأسه الى السماء بعدما نظر طويلا ناحية الشرق وعاد لى وقال الفرح الاول لأختى استتها وبعدين انا فرحى مش القطامية ح تحلف بيه لا الدنيا كلها يا امى بس انت ادعى وصلى ” وفعلا اقترب لبنتى اجل زفافها وانا اعتمد على عماد فى متطلبات البيت, واخجل ان اطلب منه شوار اخته فالرجل مازال صبيا وهو لا يبخل بجهد حتى انه ينام ما بين وردية العمل, وهو الذى اعتدنا منه الحنان والعطاء كما القديسيين, دخل يوما وقال لى :” يا امى البسى وهاتى اختى معاك نروح نشترى لها كل لوازمها للفرح والبيت الجديد” فأطلقت الزغاريد مرة ثانية منذ سنوات, وانا فرحة بان وليدى نصب عمودى ورفع رأسى امام اهل خطيب ابنتى وامام نفسى التى كادت ان تتوه فى زحمة مطالب الزيجة , لكن هذه المرة كانت الزغاريد ممزوجة بملوحة النحيب الساكن فى اعماقى ويكاد ينفجر كبركان ثائر, لاننى سألته بعينى, كيف استعطت ان تجلب كل تلك الالاف من الجنيهات لتزوج اختك؟ فأجب الصبى الرجل فى كلمات شحيحة دالة على الحسرة والاستغناءمعا:” انا بعيت العربية يا امى ” فأمسكت بتلابيب صدرى بقبضة تمسك ما تبقى لنا من الدنيا حتى لا يتفلت, وقلت :” وبعدين؟!” فطمأننى كعادته واحتضننى واسر الى اذنى بصوت هادىء واثق:” يا امى يعنى انا متعو على الملك , انا مش عايز حاجة ملكى , انا كلى ملككم انتم , وبعدين اشتغل على عربيات الناس يعنى هى العربيات خلصت”

ابنى كان يعطى ولا يأخذ, ولا يحب ان يملك شيئا, ويسعد عندما يصنع السعادة لغيره, وفى يوم جاءت الى جارتى الست ام صلاح وكانت اكثر من اخت لى وقالت:”امال فين عربية عماد ؟ ده كان بيقضى لى طلباتى لما صلاح يكون غايب ومرة فسحنى بيها لما كنت مخنوقة من هم الدنيا وقالى انا ابنك يا امى اى حاجة عايزاه قولى لى على طول مش انا زى صلاح؟!” كل الجيران والاهل كانوا بيحبوا عماد, اما اولاد اخوه جرجس احكى لك عن علاقته بهم :”كان معاهم حاجة تانية كان بيعتبرهم ولاده مافيش مرة يطلبوا حاجة الا وتكون عندهم ولما اقول له عقبال ما اشوف ولادك كان يضحك ويقولى انتوا يا امى كلكم ولادى”

وجاء يوم لى وفى يده نموذج التجنيد وقال له والده يا ابنى اكلم لك اى حد انت سندنا وانت تعبت كفاية عليك شقاك معانا ” قال له :”يا ابويا انت مش عايز ابنك يكون راجل بجد الجيش ده بيدى شهادة رسمى ان ابنكم راجل خلينا اخد الشهادة ديه وما تخاف شفى الاجازة ح اشتغل واسدد مطالب البيت وانا شايل مبلغ يكفي البيت مع امى لحد ما انزل اجازة واشتغل واسيبه معاكم وهاتمشى با بويا ما تقلقش ”

وراح عماد الجيش فى سلاح المشاة فى كتيبة الصاعقة مع القائد احمد المنسى, وكان السائق لمدرعته, وكما اكرمه الله بحب الناس فى القطامية أيضا احبه كل زملاءه وقادته, حتى ان فى يوم كان فرح ابنة خالته وهو كان وعدها يسوق لها سيارة الزفاف, واتصل على من هاتفه وذكرته بوعده, فقال لى يا امى احنا عندنا هنا شغل كتير – وما كنش ابدا يحب يحكى عن المداهمات والمأموريات الخطرة فى سيناء علشان ما يقلقنيش- ما اقدرش اطلب من القائد المنسى اجازة, وبالصدفة كان القائد المنسى بيمر بجواره فسمعه وقال له :” بتكلم مين يا عمدة وعايز اجازة ليه؟” وانا سمعت كلام القائد, فقلت له اعطييه التليفون اكلمه, وكنت قد كلمته مرات سابقة عندما كان يطمأن على صحة والد عماد, وكان دائما يسألنى لو عايزة اى حاجة ما تترديش واطلبيها منى انا يا امى, وفعلا اخد القائد التليفون وعرف ان عماد وعد ابنة خالته بانه سيزفها يوم زواجها, فقال لى اوامر يا امى , لو عايزة انا بنفسى ازفها اجى على عينى, وقال لعماد نفذ وعدك يا بطل , رجالة سيناء ما بيخلفوش وعدهم ابدا , انزل خلص الفرح وتعالى”

ويوم معركة البرث عرفت من اهل القطامية ان عماد استشهد مع البطل المنسى وزملاء الصاغقة معاه وانهم راحوا رجالة, وجائنى مندوب من القوات المسلحة يحمل فى يده شهادة استشهاد عماد, وقال لى :” ديه يا امى شهادة من مصر كلها ان ابنك راجل وبطل وشهيد وقبل ايدى وجبينى” وراح,

ولما سيادة ألرئيس كرم اسم الشهيد فى ندوة القوات المسلحة حسيت ان مصر كلها شايفة ابنى بطل

وانا “شايفة ابنى عماد فى السماء بيقول لى مش هاسيبكم ابدا انا معاكم على طول” وفجأة تتمتم ابنتى فى سريرها نقترب منها انا والممرضة الشابة التى اعتبرتنى امها بعدما ادفأتها بشال عماد, وتمسك بالاجهزة وتقول :” يا ما انت كريم يا رب, سبحان الله , والله معجزة انت رجعتى تانى , مبروك يا امى , لا مبروك يا ام عماد, بركاتك يا شهيد”

وتنادى اميرة ابنتى على عماد, وتقول :” عماد هنا يا امى , عماد جه وحضنى وقال لى لا ما تموتيش, انا عايزك تخلفى عماد الصغير, قرب منى وحضنى تانى اوى لدرجة انى سمعت دقات قلبى اللى كانت غايبة , وباس رأسى وقالى انا جاى تانى”

ويُفتح باب الغرفة على دخول ام صلاح جارتنا الشقيقة- مسرعة – وتحمل فى يدها طعام كان يحبه عماد من يدها, وقالت لى :” عماد جالى فى المنام يا ام الشهيد, وقال لى :”روحى عند امى فى المستشفى واكليها علشان ما كلتش من يومين وحاتلاقيها قاعدة جنب اختى وطمنيها” وتبكى ام صلاح وتتعجب الممرضة من معجزة الحياة من جديد لابنتى اميرة , وانا احتضن عماد – الحى – فى ابنتى العائدة من الموت, وهى تناديه – عماااد – وتلتصق بى بشدة لتتحسس فى داخلى اخيها الشهيد عماد.

عن admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *