google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

القوة الناعمة وعودة الروح للشخصية المصرية (9) المسرح العسكرى.. مائة عام من العزلة

بقلم – محمد نبيل محمد

يحكم أى حديث يحترم عقلية المتلقى مدى تطابقه مع قواعد المنطق، وربما تنتصر لغة الحساب والأرقام على سحر البيان فى أحوال عدة، ولسنا ضد الحساب والمنطق عندما نذكر تاريخ بدايات المسرح الوطنى أو ما اتفقت الأدبيات على تسميته نسبة لبدايات ميلاده بمسرح المقاومة والمسرح الملحمى وما نسعى إلى تأصيله اليوم بعنوان المسرح العسكرى. وتعود البداية لخالد الذكر سيد درويش مبدع ألحان المقاومة والمتفرد باللحن العسكرى على الإطلاق وتحديدا عندما أطلق مسرحه الاستعراضى والغنائى منذ 1918 حتى تم عرض مسرحية فى 1921 بعنوان (شهرزاد) التى تدور قصتها عن الأميرة التترية “شهرزاد” التى تعتمد على المقاتل “زعبلة” فى استعادة أرضها المسلوبة من نير العدوان، وعندما يقدم بين يديها النصر ويعيد لها كرامة الأرض من الاحتلال تعلن شهرزاد مكافأته بمنحه شرف الزواج منها إلا أنه يفاجئها برغبته فى الارتباط بابنة بلده التى لا يضاهيها فى الحسن والشرف أميرة أو ملكة وهى وصيفة القصر “حورية”. وخلال الأحداث تتغنى الحناجر بأنشودة “أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا” كلمات بديع خيرى ألحان وغناء سيد درويش.. “مالناش صناعة غير الشجاعة وللجهاد ربنا خلقنا”، وربما نتذكر بصريا ذاك المشهد الذى جسدت فيه دور الأميرة المبدعة سعاد حسنى فى رائعتها (أميرة حبى أنا) وهى تتغنى .. اليوم ده يوم فدا.. فلتحيا بلادنا.. وبعيدا عن الجدل حول اسم المسرحية (شهوة زاد أو شهر زاد) كما ألمحت مجلة روزاليوسف فى 1927 عن أنها مقتبسة عن نص فرنسى، وأيضا فصلا عن الخلط بينها وبين شهرزاد أحمد باكثير ثم شهر زاد توفيق الحكيم، كانت محاولات المبدعين الوطنيين حينها لتأصيل المسرح الملحمى أو مسرح المقاومة ويجد المستعمر البريطانى فى مسرح سيد درويش انقلابا على استقرار ركائز الاحتلال، كما تنتشر أفكار المسرح العسكرى ومسرح المقاومة بين آذان المصريين لتلامس وجدانهم حتى تشعله غضبا ضد الاحتلال، وتوقظ عقولهم استنفارا لاستعادة حرية الأرض، ولا يجد المحتل بدا إلا التخلص من مسرح المقاومة حتى سرت الإشاعات بقتل سيد درويش مسموما على يد الإنجليز لإسكات صوت مسرحياته الهائجة ضدهم.

 

وتمتد مسافات الزمن لتكمل عامها المائة عدا بالحساب والأرقام حتى تنتفض وزارة الثقافة إلى دورها المنطقى، وتقدم من خلال البيت الفنى للمسرح على خشبة مسرح الأطفال عرضها الأول لمسرحية (عبور وانتصار) فى 2018 لمؤلفها ومخرجها المقاتل محمد الخولى الذى أشهد له أمام الحق أنه ممن قاتلوا (طواحين الهواء!) بعزيمة كصلابة أرض مصر العصية، وناور وتكتك لتقديم مسرحيته بعد خسارته معارك عدة فى الإنتاج كغيره من المبدعين الوطنيين، فقد خسر محاولات مضنية مع منتجين ادَّعوا الوطنية (علنا!) لتقديم دراما تلفزيونية لمسلسل عن 73 الذى أعتقد أن بعضا من الأجيال الشابة قد لا تفك طلسم رقم 73، ولنحاسب أنفسنا قبل التسرع بحساب هذا الجيل والسخرية منه، فكانت مناورة هذا الفنان المقاتل أن حول نصه التلفزيونى إلى نص مسرحى، مختصرا الكثير من عجائب ما أحدثه المصريون فى 73 وبعد سنوات يخرج العرض المسرحى بأداء ولا أبدع بواسطة جماعة من الفنانين لا تستطيع بعد مشاهدتهم أن تجد فواصل فارقة لتحدد هل هم ممن حاربوا أمس أم هم من محاربى اليوم. تتضاءل اجتهادات كل مدارس النقد المعنية بخطة الديكور والإضاءة، وملاءمات الملابس والإكسسوارات، وتجليات الموسيقى وتمازجها مع النص والأداء. ويستوجب الحال أن يصمت النقد قليلا وربما طويلا – ببعض التفاؤل – لإعطاء الفرصة لنجاح التجربة وتشجيع الغير من الفنانين للتجرؤ على تقديم المسرح العسكرى من جديد بعد أن حوصر قرابة المائة عام إلا من محاولات على استحياء ومتناثرة على مساحات زمنية ودون تأثير يبقى أو حتى يحفظ للذاكرة الوطنية وهجها ليراه القادم من الأجيال.

 

وأمست الفنون قاطبة غافلة عن رسالتها التاريخية، ولم لا، وأبو الفنون (المسرح) قد حوصر بعمد، ولا يقول لى أحد إننى أهرطق بنظرية المؤامرة، أليس من المستغرب أن يتجاهل المسرح وجدان أمة تحارب منذ فجر التاريخ وفى رباط إلى يوم القيامة؟ الآن ومعركة مصر الكبرى تدور رحاها لدحر الإرهاب فى الداخل ولإظهار القوة والقدرة الحقيقية للمصنف العاشر على جيوش العالم والسادس على بحريات الأرض، كل تلك القصص الحقيقية لتضحيات فردية وجماعية لأبناء الوطن لم تُلهم كتاب المسرح ولم تُشكل باعثا يخلق اللحظة المسرحية، أليس هناك أوجه تشابه بين تجربة الستينيات التى أوجدت عددا من كتاب المسرح قادوا مدارس مسرحية داخل الإطار الواقعى يتصفون بالنضج الثقافى والدراية بقضايا الواقع وطموحات المستقبل. وأضحت الكتابة للمسرح مصرية مائة بالمائة عوضا عن بدايات المسرح المعتمدة على التعريب والاقتباس، فكانت الميلودراما الشعبية لإسماعيل عاصم وفرح أنطون وغيرهما، ممن تنوعت كتاباتهم بين الدراما الواقعية الاجتماعية والسياسية كرشاد رشدى وسعد الدين وهبه وعبد الرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس وميخائيل رومان ونعمان عاشور، فضلا عن اتجاه جديد ومبتكر على المسرح المصرى أرسى قواعده توفيق الحكيم فيما اصطلح عليه بالدراما الذهنية، وعندما بدأت منظومة القيم على المسرح فى الاندثار (لسبب أو أسباب!) اتسع المجال للمسرح التجارى الذى أسهم بالبداية فى الحفاظ على قدسية خشبة المسرح واحترامها للمتلقى إلى أن تحول إلى مسرح لا يملك النص بداية! وينهمر فى بذخ واضح سيل المال إلى مسرح يُعلم أبناءنا السخرية من النموذج ويجتهد فى هدم النسق القيمى ويسفه الأخلاق، حتى إن الألفاظ البذيئة والإيماءات الفاضحة هى السبيل لشق الابتسامة على وجوه لا حول لها ولا قوة؛ إذ وقعت فريسة لإعلام ينجم مدَّعى الفن ليس لسبب إلا فقط أنه هكذا يشارك بدوره فى هدم مجتمع من خلال طمس هويته وتجويف وجدانه وتزييف وعيه وعزله عن قضايا واقعه. فى النهاية تحية واجبة للهواة المسرحيين فى نوادى المسرح فهم يقاتلون وحدهم!

 

ربما نشاهد ونسمع قريبا عن أبطال اليوبيل الذهبى (أكتوبر) أو عن أبطال (معارك الوجود) الآن على مسرح وطنى رشيد، لا لمقاومة وطرد الاحتلال الإنجليزى هذه المرة إنما لطرد ومقاومة الفكر المتطرف والهدام، وأيضا لتعظيم النموذج الذى جيشت جيوش حروب الجيلين الرابع والخامس لطمسه وتشويهه ولاغتراب القادم من الأجيال. مازلنا ننتظر التجربة المسرحية الوطنية!

عن admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *