google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

زوجة الشهيد احمد جمعه كان يقول لى :”سنقاتل فى سيناء لنكون شهداء ونالها وهو صائم

 بقلم- الكاتب محمد نبيل محمد: 

من كتاب حكايات الولاد والارض

كانت تبعثر هذه الصور كعادتها منذ عام كل يوم تلك صورة زفافها على فارسها أحمد , وهذه الصورة تجمعهما مع على وعمر زهرتى حياتهما, وعندما يدق القلب سريعا ويخفق خفقة معتادة, وهى تعلم أنها هنا ستبدأ بما لا تقوى على منعه وهو البكاء الذى حفر لمجراه واديان على كلثوميها, فتسرع وتغطى كل الصور بفرش سريرها, وتتعجل فى النهوض متجهة الى غرفة على وعمر تتحسسهما باناملها برفق الام الذى يزيد من هدوء الابناء ويطغى فى استغراقهما فى نومهما, هى تتحسس ملامح احمد فى وجه على البكر وتنظر طويلا الى عمر حتى تحتضن صورته وتشبك عليها بجفنيها, هى تحتض فى الحقيقة هذا البعيد القريب والغائب الحاضر, كل ليلة هى على هذه الحال, وتعود لغرفتها تمسك بصور احمد تسمعه يهمس فى اذنيها كما كان يقول لها عندما تعاتبه على طول بعاده وهو فى سيناء: “نورا… نورا انا معاكى على طول بس انت مش واخدة بالك” فتتمتم بصخب عالى لا يسمعه سوى فارسها:”عارفة انك دايما معايا بس هم مش مصدقين!”.

تحكى البطلة نورا حكاية فارسها أحمد :” مرت ذكريات عمرى الذى بدأ وكان حينها سبعة اعوام عندما طلبت يدى والدة ابن الجيران وابن زميل والدى فى الجيش وابن جارة امى فى حى مدينة نصر وطوال ستة وعشرون عاما كنا خلالها جيران ابناء اسرتين متاحبتين كنا موعودين لبعضنا البعض , كانت امى تسأل والدة حبيبى :” لماذا أحمد دون غيره من إخوته” فترد أمى الثانية :” لانه سيكون له شأن عظيم , وأحب ان تكون ابنتنا من نصيبها مشاركة هذا الشأن العظيم”

 

12 نوفمبر لعام اثنين وثمانين بعد الف وتسعمائة كانت ذكرى ميلادى الحقيقى وهم يقولون انه تاريخ ميلاد احمد , ظلت روحانا تتعانق حتى كنت فى السابعة وهو يسبقنى فى الدنيا بسنوات فطلبت والدته المدرسة بالتربية والتعليم يدى من أمى وطيلة هؤلاء الستة والعشرين عاما كنت أعشق ولا أعلم عنوانا للعشق لهذا الفارس قبل أن يلتحق بمصنع الرجال , وظل العشق بيننا يدفعنى لاراقبه عندما كان فى مدرسة محمد فريد الابتدائية 1992 وكبر شيئا ما عندما التحق بمدرسة عثمان ابن عفان الاعدادية 1995 ولم اكن اشجعه ليتفوق فى الثانوية النموذجية بل ليسرع فى تحقيق حلمه ليكون كوالده العميد محمد جمعه بسلاح المدرعات ووالدى اللواء محمد عمران اللذان تجاورا فى السكن وتصادقا فى الحياة وتزاملا فى القوات المسلحة حتى تخرج فى الثانوية 1999 والتحق البطل بالكلية الحربية فى 1999 ضمن الدفعة 96 حربية, وتخرج البطل فى الكلية الحربية فى 2002 وتم اختياره ضمن عدد قليل من زملائه لسلاح الاستطلاع , وحصل على كل الفرق الاساسية والتخصصية ومنها فرق القوات الخاصة كالمظلات والصاعقة وكان ينال تقدير الامتياز فى نهاية كل فرقة أو دورة يلتحق بها, وتوالت الوظائف بدءا من قائد فصيلة حتى قائد كتيبة بسيناء , كان البطل محبا للدراسة وراغبا فى إثراء معلوماته العسكرية والتخصصية باستمرار وناهما لصنوف المعرفة حتى انه حصل على ماجستير العلوم اعسكرية فى مرحلة مبكرة من حياته العملية فى 2017 وكان كعادته من الاوائل على دفعة الماجستير , ولتفوقه العلمى اختارته القوات المسلحة ليكون معلما بالكلية الحربية واضافة لما هو كان عليه من علم فذ كان يتصف بمكارم الاخلاق ومحاسن الصفات, وكل زملاءه وجميع قادته شهدوا له بذلك, فكان البطل حسن السمعة وطيب السيرة, وتخرج على يديه العديد من الضباط من الكلية الحربية, وعندما اشتد الوطيس بسيناء تقدم لطلب الخدمة بها ليقدم لها كل خبراته العملية وعلمه العسكرى وكان البطل كثيرا ما يردد لى فى احاديثه عن الجيش وسيناء:” خلقنا لنقاتل ولنكون شهداء”.

وعندما تواجد البطل بسيناء مع كتيبته ذكر لى الكثيرين من زملاءه الضباط:” انه كان مقداما بصفة دائمة فلم يترك مداهمة أو مهمة لكتبته الا وكان هو على رأس المنفذين لهذه المهمة أو المداهمة”, وحكى لى جنوده عن افتتانهم بشجاعة قائدهم وايضا فى ذات الوقت كان كان عطوفا لاقصى درجة مع جنوده وكانوا يعتبرونه والدا لهم فى أغلب الأوقات حتى أنهم كانوا يحكون له عن مشاكلهم العائلية والحياتية ويصدقون نصحه وارشاده لهم, وكثيرا ما اخفى علىّ مساعداته – الانسانية – لهم التى عرفتها فيما بعد, وعلمت ايضا انه كان يخصص وقتا طويلا من اجازاته لزيارة اسر جنوده ومشاركتهم افراحهم واحزانهم.

أما عن عشقه الاول وهى: سيناء, فكان حبه لها وايمانه بقداسة ترابها هو السبب القوى فى كونه متصدرا زملاءه وجنوده فى المهام المختلفة اثناء تنفيذها بسيناء فى مواجهة العناصر التكفيرية, وربما كان اقدامه سببا فى نصح زملاءه له بان يترك قيادة بعض المهام لغيره منهم حتى يعطونه الفرصة فى بعض الراحة, وربما ارادوا ان يقللوا فترات تعرضه للخطر حيث كانت معظم العمليات والمهام الموكلة لكتيبته ذات طبيعة خاصة من الخطورة والاهمية الشديدة وتتطلب درجات السرية القصوى فى التنفيذ.

ولايمانه القوى بدوره تجاه سيناء فكان كثيرا ما يتحدث مع اولاده عن وصف سيناء فى القرآن والكتب السماوية ومكانة هذه الارض المقدسة وانها كانت مسرى للانبياء والرسل وآخرهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبارك, وكأنه يزرع حب سيناء فى نفوس ابنائه, على البكر وعمره الآن – 2023 – احدى عشر عاما فى الصف السادس الابتدائى وعمر الابن الثانى وعمره ثمان سنوات فى الصف الثالث الابتدائى ومن جانب آخر كنت استمع إليه فى كلامه عن سيناء وأعلم فى قرار نفسى انها تشاركنى فى حبه! وربما كان هذا هو الامر الوحيد الذى لا تغار المراة منه , ربما لاننى قد تربيت عليه فى بيت والدى الذى كان من رجال القوات المسلحة وكان هو أيضا كثيرا ما يتحدث الينا ونحن صغار عن سيناء وكنت ألحظ فى عين أمى شيئا ما لكنها لم تكن غيرة المرأة على زوجها لكنه كان أمرا ما أخرو وقد علمت هذا الأمر وكشفته عندما تزوجت انا – ايضا – من رجل من القوات المسلحة, فعلمت ان الامر ليس بغيرة قدر ما انه خوف من هذا العشق الجارف من ان تأخذه حبيبته – سيناء – منى للابد!

وكنت اتحدث ليالى طوال مع سيناء, اذكرها بان الحبيب لا يؤذى حبيه, وان الحبيب لا يخبء للمحب إلا ودا, وكثيرا ما أكرر عليها ان تحفظه حبيبى وحبيبها وتصونه, واذكرها بأن هذا هو دور الحبيب تجاه المحب, وكإمرأة كنت أخفى غيرتى من سيناء التى تشاركنى حبيبى, وكنت أتلوع عندما يجاهر هو بحبه لها وهو معى صاخب الصمت , متخذ من احاديث الاعين سبيلا للتعبير عن حبه لى , وورغم الفارق! الا اننى لم أصرح سوى لشريكتى فيه – سيناء – واناشدها ان ترفق به, واناجى ربى ان يحفظه ويصونه, فقد علمت ان حبه لها – سيناء- قد تحول إلى وله , وصار هو كالهائمين فى ثرى سيناء, وكلما تيقن ذلك فى قلبى كلما اشتد خوفى على حبيبى , فأنا اخفى فى أعماف اعماقى حدثى الذى ينبأنى بخبر قادم أخشاه واطرده شر طردة من مخيلتى وهو الذى يُلح مرار وتكرارا, كلما تناثرات الانباء يمنا ويسارا عن اخبار المحبين فى سيناء وما حال من أحوالهم أن أصبحوا أحياء عند ربهم!

ما أشد قسوة الحال على الزوجة المحبة بل المفتونة بفارسها إذ تتكالب عليها أخبار الشهداء من الجيران ومن زملاء السلاح ومن ابناء الوطن وكلهم على ذات المسار فى عشق سيناء, وزوجى هذا مازال يجاهر لا قولا – قط – بل فعلا بعشقه لسيناء!

وكانت الوكزة الأولى لقلبى عندما جائنى الخبر بإصابة البطل وهو فى إحدى مهامه بسيناء بقرم القواديس حيث تعثرت مدرعته بغلم أرضى زرعه الخارجون عن الملة والانسانية فاصابوا حبيبى ومزقوا أول قطعة من قلبى نقل على اثرها البطل إلى المستشفى العسكرى بإصابة شديدة فى الراس تستلزم بعد العملية راحة طويلة بالسرير , وطيلة هذه الايام الثلاثة والاربعين وانا انظر إليه وعندا تقاطع نظراتى عيناه اغير – فجأة- كلام عينى الذى اعلم تماما انه يجيد سماعه وفهمه , واقل له:”… حمد الله على السلامة يا بطل” فيبسم ويطيل الضحك حتى يخفى عنى تاوهاته الصامتة, ويقول:”يا بطل! .. ده كلام الرجالة فى الجيش” أقاطعه:” طب ما انا من رجالة الجيش ابويا منهم وجوزى منهم اشمعنا انا اللى مش ح كون منهم” يضحك البطل ويهز رأسه بالاطمانينة ويفول:” الحمد لله , طمنتينى عليكى وعلى الولاد” وانا التى تعلم بما هو بين ثنايا كلام حبيبى, ولما لا, وهو حبيبى الذى اسبح حياتى كلها فى خفايا خلايا قلبه, فقد علمت نية أخفاها ضمن كلامه, واردت الا اظهر له فضح نواياه التى تؤلمنى و يبدوا انه ترفق بى , ووافق ما أظهره انا من عدم اكتراثى بما يخفيه.

وعاد حبيبى يقول :” انت نجحتى فى الاختبار” وأعود انا وأخفى بل اطرد من أعماقى هذا السيل العرم من القلق وأغير مساره إلى إيمان بالله هو سندى فى مواجهة هذا القلق القاتل, وأقول له:”انا ناجحة طوا ما انت جانبى” ويبدوا انه قد اختار الرفق بى فقال:” انا جنبك طول العمر يا عمرى” واردنا سويا ان ننهى جدلا قد يؤدى بقلبينا فى حينها, فأرفقنا ببعضا البعض.

وقطع البطل اجازنه المرضية التى كادت ان تصل بعد يومين إلى الخمس بعد الاربعين يوما وربما ستكون هذه المدة الطويلة سببا لابتعاده عن سيناء الذى اراد ان يواصل رحلة خلوده فيها, فارتدى زيه وسافر مسرعا لحبيبته- سيناء- وفى أثناء عدوته الاولى إلى سيناء طفت من اعماقى على مرآة عيناى صور ومشاهد وترددت اقاويل ومسامع أشد قسوة من تلك التى كنت احاول ان اسيطر عليها واخفيها لانها الان أقتربت من الحقيقة ولم تعد مجرد خيالات اقول لنفسى عنها :”تلك فقط خيالات لا تجعليها تسيطر عليك”

وأخيرا عاد البطل لمحبوبته – سيناء- وصارت الامور داخل الكتيبة كعادته معها , يطمأن على رجاله وتدريباتهم واستعدادهم ويستكمل حاجاتهم الادارية وينقاشهم ويمسع لهم وويشاركهم جميع امورهم فى الكتيبة وخارجها هناك فى الصعيد والدلتا والقناة يترحل مع رجاله كل بحكايته وشؤنه ومن بلد وقرية إلى اخرى مع رجاله داخل دنياهم الأجمل – كتيبتهم – التى تحوى اسرارهم وحكاياتهم جميعا وتلقى بها فى ثنايا سيناء التى تحفظهم عن ظهر قلب وتعلم اسرارهم فى عشقها, وما كان اليوم الاول من عودة البطل قد شارف على الانتهاء معلنا بزوغ فجراليوم الثانى إلا والبطل كان قد تكلم واجتمع وانفرد بكل رجل من رجال كتيبته وكأنه الوداع لرفقاء السلاح والسلام لرجال الجبهة, وأشرق النهار على حبيبى البطل ممسكا صائما يكمل ايامه البيض فى الثالث والعشرين من شهر شوال العيد 1442 هجريا الرابع من يونيو 2031, ويوم الجمعه الذى شارك حبيبى الحظ من اسمه , وقبيل رفع آذان ظهر الجمعة بهنيهة صعدت روح شهيدى البطل وزوجى الحبيب من سيناء التى طالما عشقها وجاهرعملا وقولا بحبها إلى أن أختصته بالخلود وبصحبة الانبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.

وثانية مرت مدرعته على لغم اصاب رأس شهيدى, أصاب هذا اللغم هذه المرة قلبى فمزقه كاملا إلى أشلاء, وفى ذات الوقت وقبل ان يدوى رنين الهاتف معلنا استشهاد حبيب العمر وقبل لحظات كنت امسك بتلابيب هذا القلب الموجوع , اقبض عليه, أعتصر ما تبقى فيه من حياة, وهى تتقطر بالذكريات واحدة تليها أخرى أبتسم واتحسرعليها, وافيق من حالى متسائلة ماذا جرى؟! اتعجب من استباق كئيب لحالة ارفضها منذ أن اصيب حبيبى من عدة اسابيع, ما هذا العناد من تلك الحالة القاسية التى تأبى إلا وأن تطفو أما عيناى حتى أحرك يداى أمام ناظراى وكأننى أمسحها من الوجود الكامن الباطن مسحا, وتارة بظهر يدى الوح لها بالابتعاد كأننى أزحزح جبلا يأبى إلا ان يأتى من الخيال إلى الواقع ليصير حقيقة , استسلمت , فشلت كل حيلة بالابتعاد عن ما يدور داخلى, وبكيت طويلا حتى اسكت بكائى هذا الدوى المفجع لصوت الهاتف يرن وانا انظر اليه , اتردد, اقرر الا ارد على المتصل , وبعد ان اقتنعت بقرارى تماما اجد هذه اليد التى عجزت عن ازاحة جبل الخيال الكئب, تعجز – أيضا – عن السكون والثبات وبتلقائية عفوية عن دون رغبة منى تمسك الهاتف وتفتح الخط على المتصل وتتركنى وحدى فريسة ما يقال من الطرف الآخر على خط التليفون :” السلام عليكم يافندم” لم أرد , أو لم أستطع ان اتفوه وهمهمت بطنطنة بعض من كلام, اقتنع المتصل بها واراد ان يريح عن كاهلة عناء اتصاله وفحوى رسالته, وسريع وبثبات المؤمن قال :” لا تحسبن الذين قتلوا…” فاكملت :” فى سبيل الله امواتا ” وكررت ” إنا لله وإنا إليه راجعون” وظل قلبى ولسانى يكررا حتى تحجرت عيناى وجف حلقى وتصلبت اطرافى ولم أجد نفسى إلا وانا اسمع الشهيد حبيبى يكرر على ” انت نجحتى فى الاختبار” ” انا اطمنت عليكى وعلى الاولاد” ” انا جنبك طول حياتى”… استقويت بكلام حبيبى الذى صار شهيد واصررت على استكمال ما كان يحلم به ويأمله فى أولادنا حتى نكمل مشواره فى حب الوطن الخالص لوجه الله.

ومرت ذكريات عمرى الذى بدأ وكان حينها سبعة اعوام عندما طلبت يدى والدة ابن الجيران وابن زميل والدى فى الجيش وابن جارة امى فى حى مدينة نصر وطوال ستة وعشرون عاما كنا خلالها جيران ابناء اسرتين متاحبتين كنا موعودين لبعضنا البعض , كانت امى تسأل والدة حبيبى :” لماذا أحمد دون غيره من إخوته” فترد أمى الثانية :” لانه سيكون له شأن عظيم , وأحب ان تكون ابنتنا من نصيبها مشاركة هذا الشأن العظيم”.

 

 

 

 

عن admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *