google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

الشهيد عمر خالد النينجا أحد حناجر القرآن فى سيناء حكايات الولاد والارض

بقلم- محمد نبيل

لم يأتى من أقصى غرب مصر – الاسكندرية – هذا الفتى، ابن الثالثة والعشرين ربيعا، إلى سيناء ليقتل أو يُصيب، بل جاء ليبنى ويُعمر، فقط ، كان هناك من يقفون عقبة دون البناء، وهؤلاء هم من يرفضون العمار، ويسعون إلى أن يفسدوا فى الأرض، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا، ولم يدروا أنهم هم الأخسرون أعمالاً، كانوا يتمتمون بالقرآن، وما هم من القرآن فى شىء، أما هذا الفتى الذى أوبت معه جبال سيناء، ورتلت مع صوته الشجى أشجارها، وهو يرتل القرآن عملاً حسناُ، كما هو يُسمعه لمن حوله صوتاً عذباً، كان يختلى فى ظلمة ليله بقرآن ربه، يشدّوه، ويتغنى بآياته، وإذا لاح الفجر وتخلل ما بين الخيطين الأبيض والأسود، قام وأذن بصوت رخيم، كان تارة كإمام القراء، العظيم، القديم، المُجدد الشيخ محمد رفعت، وأخرى كصوت الملائكة سيدنا الطبلاوى، وثالثة ورابعة يرتل كالحافظ شيخنا المنشاوى، أو تشابه مع قيثارة المقرئين شيخنا عبد الباسط، وهذا هو حاله فى ليل سيناء، فكان إحدى حناجر السماء المُرتلة لقرآن ربها، أما فى نهار سيناء، فكان يعبد ربه على شاكلته، فترصد سيناوية يتيمة، أكرمها الله باليتم، وزاد فى كرمه عليها بالإعاقة، وأجزل ربنا فى عطاءه تعالى لها، إذ كلف هذا الشاب، المقاتل، المرتل برعايتها، وتعهده بالعمل على راحتها، بل وبناء منزل لها يأويها، وهوالمقاتل المدافع عن ما أقسم الله به فى كتبه، فهو يصون تين سيناء وزيتونها، بل وبنيان الرب – هذه الفتاة السيناوية – التى لم تشفع لها إعاقتها ويتمها عند مُدّعى التدّيين، فطاردوها وشردوها من بيتها، حتى جاءها الفتى من أقصى الأرض يسعى إليها بعطف ولين كما يعظ بهما القرآن، وصان الفتى الأرض بسلاحه، وحمى العرض بخلقه، وبنى البيت بيمينه، وشنف الأسماع بترتيله، نال ما تمنى ودعى به ربه، فعرج من – سيناء – موضع مسرى الانبياء، وخاتمهم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبارك، يوم التروية فى الثامن من ذى الحجة ليٌحىّ العيد بصوته الشجى فى صحبة النبيين والصديقين، ويأتى صديقه من بعده، ليُكمل عهده مع إبنة سيناء، ويتم بناء البيت.

 

وتحكى والدة الشهيد المقاتل المرتل النقيب عمر خالد:”… جائنى ابنى عمر فى شهر اغسطس ورحل فى ذات الشهر بعد ثلاثة وعشرين عاما كان فيها ضيفا خفيفا مريحا لم يغضب قلبى ولو بدون قصد بل كان دوما سببا لفرحته ودائما ما كحل عينى بطلعته البهية واطرب سمعى بعذب الكلام وكأنه رسام اجاد رسم البسمة على وجونا انا ووالده واختيه، ولد عمر فى الثالث من أغسطس 1995 وغادر إلى ربه فى التاسع عشر من نفس الشهر ٢٠١٨ يوم التروية قبل عيد الأضحى بيومين ،وذهب جسده الطاهر يوم وقفه عرفات”.

كانت السيدة قوية كما وليدها المقاتل ومؤمنة مثله القارىء للقرآن، تحكى بصبر قوى:”… إبنى عمر كان وحيد على أختين، اتخرج من مدرسة اللواء محمد نجيب التجريبية بمجموع ٩٧٪ ، والتحق بالكلية الحربية كما كان يحلم ويتمنى فى ٢٠١٣ وتخرج ٢٠١٦ والتحق بالعملية الشاملة لتطهير سيناء عام ٢٠١٦- ٢٠١٨ ، وهو كان قليل النزول من سيناء فى اجازاته الى الاسكندرية، وربما كان فقط هذا هو السبب الوحيد الذى كان مصدر خلاف بينى وبينه، فهو اما فى مهامه بسيناء أو فى مأموريات لصالح اصدقاءه من المدنيين والعسكريين، سواء كان يقضى أمرا لاسرة زميل، أو يساعد آخر فى إتمام اجراءات زفافه، أو يجرى على إعانة آخرين لم أعرفهم حتى الآن لكننى سمعت عنهم من زملاء عمر، وكأن أبنى عمر كان موجودا لحياة الآخرين وليس لحياته، وحتى اننى علمت من صديق له بعد استشهاده وفى احدى زيارته لى قال: يا امى ، الشهيد عمر كان يرعى بنت يتيمة ومعاقة من أهل سيناء، وكان يدخر من رابه معظمه ليبنى لها بيتا يأويها بعد ان هدم التكفيريين بيتها وطردوها من حطامه حتى!، وأنا لم أعرف هذا العمل من الشهيد عمر ، بل أتنى أحد رجال سيناء يسأل عن الضابط عمر، وعندما قلت له انه استشهد، قال لى الرجل : لا حول ولا قوة الا بالله ، كان الشاب يرعى بنتا معاقة ويبنى لها بيتا، ولما قال لى انه سيكمل بناء البيت، قلت له: لا، أقسم بالله عليك، أن تدلنى على البنت، وموضع بيتها، لأُكمل ما بدأه دفعتى واخى وإمامى بالصلاة وإمامى بالعمل الصالح، وبعدما أنهى زميل إبنى حديثه، تذكرته عندما وقف بجوارى عند باب المنطقة الشمالية العسكرية فى أحداث ثورة 30 يونية 2013 وحينها قلت له: إرجع البيت، علشان تذاكر وتنجح فى الثانوية، وتدخل كلية الهندسة كما أراد والدك، حينها، ولن أنسى ما قاله صغيرى: هندسة ايه يا ماما انت شايفة البلد حالها ايه؟! لا، طبعا الكلية الحربية، البلد محتاجة ولادها يا ماما, وعند سماعى لما قاله هذا الصبى الذى صار كبيرا جدا فى نظرى كم كنت فخورة أننى أم لهذا الرجل الصغير، وفيما بعد تردد على سمعى ما كان والدى جد ابنى يقوله عنه: إنت يا عمر ح يكون لك شأن عظيم، وأنا عايزك تعمل حاجة كبيرة، الناس كلها تشهد لك بها، وظل صدى هذا النصح من والدى فى الانحاء من حولى أينما ذهبت، وبعد أن كبر عمر، والتحق بالكلية الحربية كنت أتصور أن هذا هو مقصد والدى، ولم أكن أعلم أن الأمر سيكون أعظم من مجرد كونه ضابط وفقط، وانشغل عمر بحياته العسكرية وأخلص فى عمله الذى تحول عنده من مجرد عمل إلى رسالة تجاه بلده، فكثيرا ما كان يحدثنى عن أهمية ان يكون لمصر رجال فى هذا التوقيت تحديدا، لأن الحال يحتاج إلى تضحيات كبيرة وكثيرة، حتى أن عمر عندما ترقى الى رتبة النقيب كان فى سيناء ولم يستطع ان ينزل اجازة ليشترى الكتافات والرتب الجديدة، وعندما سألته: هل علقت الرتب الجديدة يا عمر ؟، وكنت اتصور انه من انشغاله سينسى اننى احب ان اعلقها على كتفه بيدى، فبادر بالرد الذى أثلج صدرى: تفتكرى الترقية تبقى ترقية لو حد غيرك علقالنجمة على كتفى يا ست الحبايب، أنا لما أنزل اجازة إن شاء الله أبقى أفرح معاكى بالترقية الجديدة، وبعد هذا الإتصال التليفونى الذى سأل فيه عمر عن أختيه، وطلب منى عمر: خدى بالك يا ماما من اخواتى، وعرفيهم إنهم كل حياتى ، وإنهم أغلى حاجة عندى، طبعا بعدك يا ست الكل، ومعظم المكالمة كان بيوصينى عليهم، وكانت أيام وترقى عمر ترقية أخرى، فتحقق ما كان يتحدث عنه والدى، وقام عمر بعمل لا يضاهيه عمل، فجائنى محمولا على الرؤوس وملفوفا فى أغلى قطعة قماش، وهى علم وطنه الذى أحبه رغم صغر سنه وأخلص فى حبه وأجاد فى عمله من أجل وطنه كما كان يتمنى ويحلم، وعندما رأيت نعشه يقترب منى تذكرته عندما قال : يا ماما البلد محتاجة تضحيات كتير وكبيرة، وعلمت حينها ما كان ولدى يقصده، ابنى عمر رحل بعد والده بثلاثة أشهر ومن بعده رحل والدى جد عمر بسبعة أشهر، فكنت فى ابتلاء واختبار ادعوا الله ان يلهمنى الصبر عليه.

عمر ابنى كان عنده موتوسيكل، وكنت بخاف عليه جدا من ركوبه، وقلت له:” انا قلقانه عليك منه” وكان يضحك ويقول لى:” أنا نهايتى أكبر من كدة بكتييييير ياماما” وعرفت ان نهايته التى اختارها – بالفعل – كانت أكبر من أى أمر آخر.

عمر كان مؤمن محافظ على صلاته، وحافظ لقرآن ربه، وكان يجيد ترتيل القرآن بأصوات العظماء من القراء، وكان أصحابه يحبوا أن يأمهم فى الصلاة، وكانوا بيحكوا لى إنهم كثيرا ما يطلبون من عمر وهم فى سيناء ان يسمعوا القرآن على لسانه ومن صوته لانهم كما كانوا يقولون: كنا نحب ان نسمع القرآن من صوت الشهيد عمر، لأنه كان يُشعرنا بأن رجال القوات المسلحة أكثر إيمانا من هؤلاء المُدعيين، وأيضا كان يريح قلوبنا ويطمأننا أننا على صواب وعلى حق, وقال لى بعض أصحابه: أننا كلنا مازلنا نضع نغمات تليفوناتنا بصوت تلاوة الشهيد عمر أو بصوت رفعه للآذان، ولم نكن نحن وحدنا ما فعلنا ذلك بل أيضا جنود الشهيد عمر،الذين احبوه واعتبروه أخا أكبر لهم, وكان حزنهم عليه كبير جدا، ودائما ما يذكرونه بصدق حديثه، وحبه لوطنه ولسيناء، وايمانه برسالته كضابط مقاتل” .

تصمت السيدة هنيهة، لا لتتذكر وليدها وأحداث حياته، بل لتصف ما تراه عينها وكأن شريط الذكريات يمر من أمامها، وتحكى البطلة والدة البطل:” … بعد تخرج عمر والده وجده كانوا فرحانين به اوى،، وتم تعينه بالجيش الثانى، وقلت له:” هو ممكن تبقى جنبى هنا انا قلبى ملهوف عليك يا ابنى” قال ” يا أمى كل اللى يجيبه ربنا كويس” عمر ابنى كان دايما بيقبل اللى ربنا كاتبه ويرضى به، ومش بيحب بعترض، وبعد شوية عمر التحق بالعملية الشاملة من بدايتها، وأنا ما كنتش أعرف غير قبل استشهاده بكام شهر إنه فى سيناء، لما نزل اجازة، وكنت بتفرج على احدى البرامج وهى بتعرض البيان العسكرى عن أعمال القوات المسلحة فى مواجهتها للإرهابيين, وغصب عنى قلت له:” هو ده حقيقي ياعمر” ابتسم وقال :” وأكتر من كدة، بس إحنا قافلين عليكم الباب يا امي إطمني انت واخواتى، مش ح يحصل حاجة طول م إحنا موجودين” قلت له:” تقصد إيه ؟ إنت فين ياعمر؟” ضحك وقال :” طول م إنت بتدعى لى يبقى خلاص ما تخافيش” ولحد هنا وده إبنى اللى أعرفه، لحد يوم التروية العصر، وصلنى خبر استشهاده، وراح لرب العباد يوم وقفة عرفات، إبنى كان فى تأمين مطار العريش، تصدى لعربيتين مفخختين، وعند عودته، حصل اشتباك مع التكفيريين، فأمر جنوده اللى كانوا معاه بالعودة للحفاظ عليهم، وتعامل هو فى ضرب الارهابيين والتصدى لهم، وتم تفجير عبوة بجواره نتح عنها استشهاد ابنى.

ابني حصل علي كل الالقاب اللى تشرفه فى دنياه وآخرته، كان فى مدرسته مُلقب بالطالب الشقى المحترم، وفى الكلية بالطالب اللى صوته حلو فى القرآن، وبعد تخرجه، لُقب بالظابط المبتسم، ودية ليها حكاية، واحد من زمايل الشهيد قال لى:” كان بيستفزنا يا أمى وإحنا طالعين أى مداهمة، فكنا بنقوله: إنت مبسوط كده ليه ياعم، فكان بيرد علينا ويقول: يا اخونا م إحنا لو رجعنا نبقى أتمينا مهمتنا بنجاح، ولو ما رجعناش نبقى أتمينا حياتنا شهداء، يعنى كدة والا كدة كسبانيين.

… وفي مرة زارنى قائد عمر من البحرية، وحكى لي قصة استقبالهم من عمر هو والرائد الشهيد مصطفي محمود، الشهير بمصطفى بوتشر، وقال لى:” جالنا اتصال تليفونى وبيقول إن الظابط عمر ح يفهمكم كل حاجة، لقينا ظابط صغير، مبتسم، جاى فقولنا له:” إنت بقى ح تكون المخ، وإحنا العضلات” وأقسم بالله يا أمى: كانت هى دية الحقيقة، إبنك كان مخ ماشى على الأرض، وكنا بنطمن إن عمر معانا، علشان كان بيفهمنا من أول كلمة، والإرهابين بيخافوا لما يعرفوا إن مدرعة (النينجا) طالعة، وده اللقب التالت اللى اخده (النينجا) لأنه كان بيتحرك بخفة، وسرعة، من غير ما حد يلاحظه، علشان كده سموه عمر النينجا.

حصل عمر علي تكريمات من السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى، وتم إطلاق إسمه علي محور المحمودية الجديد، وأيضا إطلاق اسمه علي مدرسة فى الحى الذي يقيم فيه، وأُطلق اسمه على قاعة حمام السباحة فى النادى الأوليمبي المصرى.

والحمد لله، والشكر لله، ابنى عمره ما اشتكى من حاجة، ودايما كان بيقول لى:” يا ماما الابتلاءات اللى تقربنا من ربنا، أفضل من النعمة اللى تنسينا فضله”.

وكتب رسالة لصاحبه، وقال له:” ما تزعلش على حاجة، إحنا جايين الدنيا علشان حاجتين، نعبد ربنا، ونتبسط بأعمال ترضيه سبحانه وتعالى” والحمد لله ابنى عمر نال ما تمنى من ربه وحقق مراده من وجوده فى الدنيا، وهو رضا ربه, واستشهد فى سبيل وطنه”.

 

 

 

 

 

عن admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *