google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

ماذا يتبقى لأمة إن فسد علمها .. إنهم يختلقون علوما موسيقية

بقلم / محمد جمال الدين

تخوض الموسيقي المصرية المعاصرة مأزق علمي كبير للغاية، بل كارثة بدأت أقدامها تدب منذ القرن السادس عشر إثر الاحتلال العثماني لمصر، ومازالت تتفاقم وتتفاقم إلي يومنا هذا، وهي كارثة ” اختلاق علوم موسيقية ” إنهم يبتدعون علوما موسيقية في مصر، وتبلغ شجاعة البعض حد إقرارها وإنزالها على روؤس الطلاب بالمعاهد والكليات الجامعية، والزج بها في مناهج الدراسة النظامية، برغم أنها مختلقة اختلاقا ولا وجود لها بين مقررات العلوم الموسيقية في معاهد وجامعات العالم، ومن تلك العلوم المختلقة في مصر على سبيل المثال لا الحصر:

• العروض الموسيقي

• الإيقاع الحركي

ولنبدأ ب ” عروض الموسيقي”، لنري كيف تم اختلاقه.

ما من شك في أن كتابة النغم (التدوين الموسيقي) كانت أكبر مشاكل تاريخ الموسيقي، وقد كانت الشعوب القديمة تبكي دوما فقدان ألحانها ونسيان وتبدل أنغامها من جيل لجيل ، ولا مفر إذ لم تكن هناك وسائل لتسجيل الالحان، وأصبح ابتكار كتابة النغم حلما كبيراً يراود الجميع وأمنية بعيدة المنال .

وقد أنشأت الحضارات المبكرة بداية من الإغريق طرقا أولية لكتابة الموسيقي مثل ” التدوين الهجائي” بمنح كل نغمة من نغماتهم حرف من حروف اللغة الإغريقية ، فإذا أرادوا كتابة لحن وجدوا لكل نغمة من نغماته حرف من اللغة دال عليها فكتبوا النغمات بحروف اللغة تباعا، وقد عجزت هذه الطريقة عن تحقيق أهداف كثيرة فلم تتمكن مثلاً من تحديد الزمن الذي تستغرقه كل نغمة، أي تحديد الإمتداد الزمني لكل نغمة داخل اللحن ، الأمر الذي أثر سلباً على تدوين الألحان وبالتالي استردادها، لذا ذهبت الحضارات الأكثر تقدماً ومنها العربية للبحث عن طرق أخري لكتابة النغم، وكانت احدي هذه الطرق هي “عروض الشعر” حيث استخدمت بحور الشعر وتفاعيله لتحديد الزمن الذي تستغرقه كل نغمة نسبة إلى غيرها من النغمات، ومن عروض الشعر أصبح كل من السكون والحركة والوتد والسبب يشير الي زمن موسيقي أو آخر، ولذا سميت أولي إيقاعات العصور الوسطي العربية باسماء بحور الشعر ذاته ” إيقاع الرجز، إيقاع الرمل … إلخ “، تماماً مثلما فعل الإغريق قبلهم حين أطلقوا على إيقاعاتهم أسماء بحورهم الشعريه ” إيقاع ايامب ، إيقاع انابست ، إيقاع تروخي ، داكتيل، سبوندي … ” ورغم أن هذه الخطوة حققت قدرا أعلي من التقدم إلا أن تحديد زمن كل نغمة (تحديد الزمن الموسيقي) ظل قاصراً ، وظلت تفاصيل الإيقاع الأكثر دقة ناقصة، ولذلك توالت الابتكارات، ومنها ما ظهر في أوروبا مثل:

1. تدوين الإشارات .

2. التدوين الروماني الكورالي .

3. التدوين الكنسي .

وكلها خطوات أفضت في النهاية إلي التدوين الأكمل ” تدوين المدرج ذي الخطوط الخمس ” وهو المتبع الآن ، أي أن تدوين اليوم إنما يتضمن خطوات التطور السابقة، لقد أختتمت الرحلة وتبلور علم ” الصولفيج” القاضي بتدوين الموسيقي على المدرج .

وعلم ” الصولفيج ” القائم على ” تدوين المدرج ” هو ما تعلمناه بكليتنا ومعاهدنا المصرية، وما تدرسه كافة معاهد العالم الآن باعتباره طريق التدوين الأمثل الذي بلغته البشرية، غير أننا في مصر لا نكتفي به كما تكتفي كل دول العالم، وإنما نذهب إلي ” العروضية التاريخية القديمة ” ونوقظها من رقادها ونبعثها ثم نلطم بها وجوه الطلاب ليذاكروها ويعبروا امتحانها لقد راحت تلك ” العروضية ” البالية تزاحم في عقول الطلاب، وأصبحنا نحن نبعث للحياة خطوة تاريخية عتيقة وناقصة من خطوات تشكل علم التدوين .

وإذا تتضمن دراسة علم التدوين المعاصر “الصولفيج” الخطوات التاريخية السابقة عليه ، فاننا نزاحمه بخطوة تاريخية أدت إليه هو نفسه، ونخلط بذلك ماضي العلم بحاضره، ونثير التشوش ونجعل الطالب يتسائل مندهشا حائراً لماذا أكتب النغمات ناقصة في مادة العروض بينما أكتبها مكتملة في مادة الصولفيج ؟ ” فلكل علم تاريخ خاص وما نقوم به في مصر من اقتطاع جزء من تاريخ علم “الصولفيج ” وتلقينه بوصفه علما كاملاً لهو أمر مثير للدهشة وباعث على الفوضي حقا .

واذا كنا نحن المصريون على صواب في ذلك فلماذا تكتفي اليوم معاهد اليونان ب “الصولفيج” وتترك ماضيها من “التدوين الهجائي” ؟، لماذا تكتفي معاهد إيطاليا (كونسرفاتوار روما مثلاً) ب “الصولفيج” ولا تتناول الي جانبه ” التدوين الروماني القديم ” ؟، لماذا تبتعد إيطاليا عن تدوين إمبراطورية روما هذا ؟ أنها تبتعد لان قديم العلوم ناقص دائما، ولأن العلوم لا تعود أبدا لبداياتها، ولا ترجع لماضيها بحال، تبتعد إيطاليا لان كل علم يظل يصحح أخطائه ويستكمل نواقصه ولا يستطيع بعد ذلك العودة للوراء، هذا ومازالت كليات ومعاهد الموسيقي المصرية تقرع الطلاب بما يسمي ” عروض الموسيقي “، فماذا يتبقي لأمة ان فسد علمها .

لنتناول الآن ” العلم” الثاني المختلق وهو ” الإيقاع الحركي “، إذ كانت حجة اختلاق “الإيقاع الحركي” في مصر هي ” نقل الإيقاعات العربية لعقل الطالب بجعله يرقصها حتى تلتصق بذاكرته ” ، وفي “الإيقاع الحركي” هذا يقوم الأستاذ بتوقيع إيقاع ما بالنقر على طاولة أو مسطح ما (أو العزف) ، وعلى الطالب تحريك جسده اتساقا مع هذا الإيقاع ، ويصوب الأستاذ بعدها حركات الطالب لكي تتطابق أكثر فأكثر مع الإيقاع، ما هذا العبث ؟ كيف تدرس كلية أو معهد للموسيقي حركات الجسد مع الإيقاع ؟ أليس تحريك الجسد مع الإيقاع الموسيقي هو فن آخر، فن الرقص، أليست تلك وظيفة فن الرقص بعينه، لماذا يتعين على دارس الموسيقي تعلم نوع من الرقص لدراسة الإيقاع بينما تتم دراسة الإيقاع بالفعل في علم ” قواعد الموسيقي العربية “، لقد اعتمد من اختلق ” الايقاع الحركي” على محاولات جرت في فرنسا لتعليم الأطفال التحرك مع الإيقاع ، ثم سارع بعدها باستيراد التجربة الفرنسية ودون التعرف على نتائجها ، تماماً مثلما نستورد السلعة أو البضاعة وكما نستورد مفردات لغتنا اليومية (ألفاظا إنجليزية) دون التوقف لـتأمل صلاحية تطبيق هذا أو ذاك في مصر ، ولزيادة الطين بلة ، يطلق مبتدعو ” الايقاع الحركي” عليه اسم ” صولفيج حركي”، وهو بدوره اسم مختلق وزائف وغير وارد في دولة أخرى في العالم، إذ ليس هناك ” صولفيج ” ساكن وآخر متحرك ، وكل “صولفيج” هو حركي بحكم تتبعه لحركة الانغام وسير الالحان ، فمنا لاشك فيه أن عنصر الايقاع كان ومازال في مصر، كما في دول الشرق أحد قطبي معادلة ” اللحن / الايقاع ” التي تتشكل منها الموسيقي لدينا، والموسيقييون لدينا معنييون بالدرجة الاولي بصياغة أغانيهم ومعزوفاتهم من لحن وإيقاع ، وبلوغ أعلي اتساق ممكن بين طرفي المعادلة ، أي أن عمل الموسيقيون هو تقديم الإيقاع مغزولا باللحن ، وإجادة ذلك النسيج اللحني / الايقاعي ، وليس عملهم التعبير عن ذلك النسيج بحركات الجسد، وعمل المعلم هو تدريب الطلاب على كيفية خلق الإيقاع (عزفه) وليس تمثله، ولاشك في أن علم ” الصولفيج” إنما يدرس حركة الانغام المتوالية في اللحن وليس حركة جسد الانسان، وإذا كان على طلاب الموسيقى أن يرقصوا الإيقاع لكي يفهموه فماذا تركنا لطلاب معهد الرقص (الباليه)؟، وإذا كان طالب معهد الرقص (الباليه) يدرس سنوات طويلة كيفية تمثل الإيقاع بجسده، فلماذا نزاحمه في عمله ؟ أننا نحن أهل الموسيقي نعزف لكي ترقص الناس ولا نستطيع نحن الرقص أثناء ذلك، كيف تختلط المهام والتخصصات الفنية على هذا النحو ؟، وياليتهم اكتفوا باختلاق: العروض الموسيقي والإيقاع الحركي ، ولكنهم اختلقوا “علم” ثالث هو ” قمم المبدعين” وغيره وغيره، هذا هو حال العلوم، إن ما يحدث في مصر يفسر لنا بوضوح تام أسباب التراجع العلمي الآني، كيف يمكن لبلادنا أن تنمو بينما العلوم تتعثر، ماذا يتبقي لأمة ان فسد علمها .

عن said badran

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *