google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

حتى لا نكون أمام صورة مشوهة للتراث الموسيقى الشعبى

بقلم محمد جمال الدين

تعد الأغنية الشعبية تجسيد لعقل المجتمع وميوله الفكرية والأخلاقية، وحتى وإن كانت الجماعية للأغنية الشعبية ليست دائما متوافرة فيما يتعلق بمصدرها، فإنها جماعية بالتأكيد في وجهتها، فهي تمثل ثقافات مجموعات من السكان تتقارب من حيث الأهمية وتذوب فيها الفرديات وتمحى، إن لم يكن لشيء، فلتماثل أفرادها في الميول والنزعات، ويتجلى هذا التماثل في الطابع العقلي للإبداع في عدم وجود دعامة عادية، تثبت عملية الإنتقال لإثرائها، فإن عملية الإسناد لفرد معين يدخل في إطار الإفتراض والتخمين وهذا لا يعني أن مؤلف الأغنية الشعبية هو فرد واحد، كما يعتقد البعض .
والأغنية الشعبية بطبيعتها غنائية ذاتية، حزينة وإنفعالية، ومنتشرة وغير مدونة، ويتم إنتقالها عن طريق المشافهة، فهي دائما تتغير وتتبدل مراراً في أثناء عملية الإنتقال بالمشافهة، وهي تارة تزداد غنى نتيجة لهذه التغيرات، وكثيراً ما تفتقر وتصبح ذات عذوبة مصطنعة ومبتذلة تارة أخرى، فالتناقل الشفوي هو سبيل الأغنية إلى الإنتشار، وهو السبيل الأوحد الذي تسلكه هذه الثقافة عبر الزمان والمكان مع إحتفاظها بأصالتها، لكن حتى التناقل الشفوي أصبح في عصرنا هذا، لا يعتبر من المقاييس التي يمكن إدراجها ضمن الخصائص الخاصة بالأغنية الشعبية.
إن هذه الخصائص تؤكد مدى ارتباط الأغنية الشعبية بالفئات الإجتماعية المختلفة التي تجد ذاتيتها فيها، لذا يتم تناقلها لإرتباطها بوجدان الشعب وتعبيرها عن إنفعالاته، إنها الذات الجماعية الفردية التي تكون ذاتية المجتمع في ماضيه وحاضره، وتعطي ذلك المجتمع والشعب خصوصيته التي يتميز بها، ولا يمكن إرجاعها لأية خصوصية أخرى .
كما أن كلمات الأغنية الشعبية منظومة ومقفاة، بحيث تندرج تحت ما يسمى بالشعر الشعبي، بما يحوي من المعاني الشعبية التي ينطوي عليها، والجرس الموسيقي الكامن في كلماتها، لتجد طريقها إلى قلوب الناس ، وتصب هذه الكلمات في لحن هو أبسط قالب لحني معبر بفنية، أو يتغنى به الفرد وكأنه صاحب هذا اللحن، لأنه نابع منه وليس وافداً عليه، يؤديه وهو يسمعه، ويسمعه وهو يؤديه في تجاوب وإنسجام .
ويكاد يكون هناك إجماع على أن الأغنية الشعبية مجهولة المؤلف والملحن ، ولكن كما أعتقد فما الذي يمنع أن تكتسب أغنية مدونة معروفة المؤلف أو الملحن صفة الشعبية، وتذوب في التراث الشعبي حسب تعريف فايس، فالخلق والإبداع هبه من الله يصبغها على أفراد مختارين من عباده، ثم يتناقل الشعب هذا الخلق ويضيف عليه الإبداع الجماعي
وفى اعتقادى أن القصد من الجهل بأصل الأغنية، إنما يعني القدم وتباعد الزمن بين أول ظهور الأغنية وحتى اللحظة التي اتصفت فيها بالشعبية، كما أنه يعني من ناحية أخرى شيوع الملكية الشعبية، وسقوط الملكية الفردية عنها بحيث تصبح ملكاً للشعب، فهو مبدعها ومؤديها فى نفس الوقت، فإذا توافر لأغنية ما بالرغم من معرفة تاريخ وجودها صفة الشيوع، ورددها الناس من هذا المنطلق، لا يذكر مؤلفها إلا عند التعرض لها من قبل الباحثين ، أو أن هذا المؤلف غاب من الضمير الفني للشعب ، لذلك أصبح الشعب هو مالكها وأدرجت ضمن تراثه الشعبي، فالجهل بأصل الأغنية فيما مضى، كان سببه إفتقار الأغنية للتدوين، وعدم تدوينها يرجع لظهورها في زمن لم تكن فيه الكتابة قد أنشرت بعد ، وكذلك فإن قصور الباحثين والدارسين والأساتذة المتخصصين في القيام بهذه المهمة كان حائلاً أمام تجدد التراث الشعبي .
ولما كان لابد للأغنية الشعبية من الإنتشار، والتداول بين الناس في المناسبات الخاصة والعامة، وهذا شرط ضروري وحيوي، وإلا لما أصبحت أغنية شعبية، إلا أن الإنتشار كما أعتقد لابد وأن يقترن بالتداول، وإلا انقطعت حلقات السلسلة في قنوات وصولها،ونساها الشعب، وضاعت وإندثرت، ولم تعد تحسب على التراث الشعبي، حيث أن هناك الكثير من الأغاني الشعبية شاعت بين الناس في وقت ما، وحققت نجاحاً منقطع النظير في وقتها، ثم تندثر وتضيع ويلفها النسيان، ولكن الأغنية التي تلقى القبول العام ، وتظل كذلك لأعوام طويلة وتصبح وسيلة الشعب التلقائية في التعبير الفني عن وجوده وأحلامه ومشاعره، فهذه هي الأغنية الشعبية الحقة.
كما إن التعديل بالزيادة والنقصان، سمة من السمات الأساسية في خصائص الأغنية الشعبية، بل هي عناصر مطلوبة أثناء التواتر الشفهي للأغنية، وهذا دون المساس بالجوهر والأصل، حيث أن الأصالة مطلوبة في التراث الشعبي بصفة عامة، والأغنية بصفة خاصة، وهذا لا يعني الجمود والتخلف، بل أن التجديد والحركة والحيوية لمواكبة ركب الحياة، أي الإضافة المبدعة، والتعديل الخلاق لمسايرة التطور دون المساس بالجوهر، هما الدم الجديد الذي يتدفق في شرايين الأغنية، ويعطيها إستمراراً وصيرورة أبدية، وذلك بقدر محدود حتى لا نكون في النهاية أمام صورة مشوهة للتراث .
علماً بأن الأغنية الشعبية هي عبارة عن تغيرات آنية أو مستقبلية، لواقع إجتماعي، أو دورات معينة من حيث إحساس الإنسان بمآسيها وأفراحها، وهذه المادة الشعبية هي عبارة عن واقع معين ومعلومات معينة، تعكس تنوعاً عبر الزمان والمكان والإنتماء الإجتماعي لحاملها، فرغم إرتباط الأغنية الشعبية بوجدان حاملها، إلا أن عوامل الإتصال الثقافي والتعليم، والتكنولوجيا والتصنيع، تلعب دوراً كبيراً في زحزحة التثبيت الثقافي، ودفعه خطوات طويلة في طريق التغيير والدينامية، وهذا يتغير ويرتبط بطبيعة الحال بتغير نسق الأغنية الإجتماعي ليواكب التحولات في جانبي الثقافة المادي واللامادي، كما لابد من إقرار الحقيقة العلمية التي أصبحت متداولة في الدوائر العلمية المعنية بالأغنية الشعبية، وهي أنه لا توجد مجتمعات جامدة في معتقداتها وأغانيها الشعبية وأخرى متغيرة، وإنما هناك متصل يبدأ بأكثرها بداوة وتخلفاً، ويتدرج عبر خط طويل يصل في النهاية إلى مجتمعات حضرية، ترتبط فيها الأغنية الشعبية بطبيعة الإنسان الإجتماعية والثقافية.
وعلى هذا الأساس فإن النظرة التاريخية، لتحول الأغنية الشعبية عبر المكان والزمان، تحتم علينا الأخذ بهذا المنظور الذي تجسد في السنوات الأخيرة، فيما يسمى بنظرية الخصوصية التاريخية، وإذا كانت الأغنية الشعبية تتنوع من حيث الكلمات من منطقة إلى أخرى، فانها تبقى محافظة على الجانب الموسيقي لها، وحتى الإشارات التاريخية والإقتصادية والإجتماعية التي تتضمنها الأغاني نجدها متشابهة كثيراً .

عن emad ahmed

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *