google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

الغناء الشعبى خلق ثقافي وفنّي يتجاوز الفرد وينفلت عن الخطاب الرسمي

بقلم- محمد جمال الدين 

إن تراث أي أمه من الأمم بكافة أشكاله، هو دليل على وجود هذه الأمة وعراقة ماضيها، وسمو حاضرها وأمل مستقبلها، ولما كان تراثنا الموسيقي الشعبي قد بدأ يتجه نحو طيات النسيان بفعل فاعل، ألا وهو عدم اهتمام أساتذة الموسيقى الشعبية فى مصر بجمعه وتدوينه، للحفاظ عليه من الإندثار، خاصة في خضم الدعوات إلى تطوير الموسيقى، والصيحات الجديدة في عالم القوالب الموسيقية والغنائية الحديثه، والتي تصنف نفسها تحت عنوان الحداثه دون أن يكون هناك منهجيه علمية لهذه الحداثه، بل تسعى لنبذ كل ما هو قديم على أنه متخلف والتوجه إلى موسيقى لا أساس لها، موسيقى هي هجين غير معروف لا يحافظ على قواعد تركيب النغمات العربية الشرقية، ولا يعتمد إلا ايقاعاً واحداً متكرراً فيه عنصر السرعة، وكأنه المعبِّر الوحيد عن عصر السرعة.

ويعد تراث الموسيقى الشعبية أحد دعائم الثقافة الوطنيه، فنحن معنيون فى مصر الدولة الرائدة التى تمتلك كنوزاً من التراث، أكثر من غيرنا بالحفاظ عليه وتدوينه ودراسته وتحليله ونشره، وذلك لأن التجزئه والإقليميه والتغريب تلعب جميعها دوراً نشطاً في طمس الشخصية الوطنيه ومحوها، إذ إن التعرف على تراثنا وثقافتنا والتشبث أمر في غاية الأهمية، فالعودة الى التراث الشعبي عامه وإلى الأغاني الشعبية المصرية عودة الى الأصالة، وهذه العودة ضروريه لأنها تبرز هويتنا وتحقق أصالتنا.

تعتبر الأغانى الشعبية خلق ثقافي وفنّي يتجاوز الفرد، وينفلت عن الخطاب الرسمي ومايتضمّنه من ثقافة سائدة ومهيمنة، كما أنّها تتجاوز دائرة المحظور والممنوع الدّيني، كما تنصهر الأغانى الشعبية فى بوتقة التّقاليد الشفويّة بإنتمائها إلى دائرة المنقول والمتوارث شفاهيًّاً، التي تمكّن جميع الثقافات مهما كانت رموزها التي تستعملها، أو اللّهجات التي تعبّر بها من تأكيد ذاتها وهويّتها، كما تمثّل مدخلاً من المداخل التي ترصد الإحتفالات الشعبيّة فى المجتمعات، بإعتبارها قديمة قدم المجتمع والإنسان نفسه، ومؤطراً تاريخيّاً تنطلق منه حضارة أيّ شعب.

والمتأمّل في إمتداد المساحة الزمنية الواسعة، يجد تراثاً موسيقياً شعبياً هائلاً تعاقبت عليه السنين والأزمنة، وقد أصبحت الحاجة ملحّة إلى الإهتمام بهذا التراث، بدلاً من الصراعات الشخصية التى تسيطر على المتخصصين فى ذلك المجال، إذ أن هذا التراث كثيراً منه إنساق إلى الإهمال والنسيان، ودفن بعضه مع الأجيال التي ولّت ولم يصلنا من هذا الكم الهائل إلّا القليل، وحتى هذا القليل بدأ يضمحل شيئاً فشيئاً.

وتعتبر الأغانى الشعبية بوجه عام، منظومة من الأصوات التي تراكمت وتشكلت على مر الزمن، واستقرت كتعبير فني أنتجته الجماعة الشعبية وتقبلته أجيالها، إذ وجدته معبراً عن خواصها المزاجية وحاجاتها النفسية وتعبيراً عما يجيش بداخلها، إذ يرى مجموعة من العلماء والباحثين أن الأغنية الشعبية إبداعاً جمعياً يبدعه أبناء الجماعة الشعبية وهو ما يعرف بنظرية الإنتاج، ويرى الآخرون أن الجماعة الشعبية لا تنتج بل تستقبل أغاني موجودة فتحورها وتعدلها وتتداولها فتصبح تراثاً مشتركاً وهو ما يعرف بنظرية الاستقبال، إلا أن من المسلم به أن الأغنية الشعبية واسعة الإنتشار على ألسنة الناس، يتداولونها بالتوارث الشفهي، حيث تتعرض في هذا التداول لقدر من التطويع والتشكيل يجعلها أقرب تعبيراً عن مزاج ومشاعر الجماعة الشعبية في إقليم معين وفي عصر معين، كما أن الطابع الغنائي هو الأغلب في الأغنية الشعبية، والعزف يكون مكملاً ومصاحباً له وللرقص، كما أن الأغنية الشعبية غالباً جمعية أو تبادلية بين مجموعتين أو بين مغن ٍومجموعة .

وأعتقد من خلال الإستماع والتحليل أن معظم الأغانى الشعبية تغنى عن طريق النساء كبيرات السن، وقليل جداً منها هو ما يتم غنائه عن طريق الرجال، كما أنّ عمليّة تلقيّن وحفظ وتعلم غناء الأغاني بالنّسبة للمؤدّيات أو المؤديين، تتم عن طريق المشافهة بدون كتابة أو قراءة ، وأن عمليّة تلقين هذه الأغانى للأجيال الحالية بها الكثير من العزوف الواضح لحفظ هذا النّوع من الغناء، لعدم المبالاة به أوّلاً، والإهتمام المفرط بغناء جيل اليوم ثانياً .

من ناحية أخرى فيما يتعلّق بعلاقة الكلمة باللّحن، فالألحان في عمومها هي المسيطرة على الوزن الشعري، فلكل قالب لحني عدّة أغاني، إذ تنظّم الكثير من الأغانى الشعبية على ذلك اللّحن، بزيادة بعض الحروف أو تكرار بعض الكلمات، لتؤدّي كلمات تلك الأغانى ملحّنة بألحان تتناسب وطبيعة المقام، وإخضاعها للوصول إلى إستقامة اللّحن المغنّى، كما تشبه مقامات الأغانى الشعبية في مجملها مقامات الموسيقى التقليدية، وإن كانت أقل ثراء وعدداً منها، أما الإيقاع فهو من مصادر الثراء والقوة والتلوين، ويتراوح الإيقاع بين قطبين متضادين، الأول إيقاع دائب ومستمر وهو سائد في أغلب الأغانى الشعبية، أما الثاني فهو إيقاع مسترسل متحرر من كل رتابة التكرار.

وتعتبر الأغانى الشعبية في المجال اللحني الخاصة بالمؤدى الفرد متفردة، إذ يقوم المؤدي مغنياً أو عازفاً بإرتجال زخارف لحنية ليعبر عن ذاته ويضيف إبداعه وخبرته للحن، وقد تختلف هذه الزخارف في كل مرة تؤدى فيها الموسيقى عن المرات الأخرى تبعاً لحالته المزاجية، كما تمثل الزخارف اللحنية في الأغانى الشعبية قيمة جمالية أصيلة، فهي ليست إضافات تقحم على اللحن، بل هي جزء حيوي من الفكر اللحني، وهو الذي يضفي على الأغنية الشعبية فى صفات خاصة تعد من مميزاتها الفنية البارزة .

وقد توصلت ن خلال الإطلاع والإستماع والدراسة والتحليل إلى أن هناك عوامل تؤثر في الأغانى الشعبية فى مصر وهى، من حيث العامل الأول هو ما يمكن أن نسميه بالإستمرار أو الدوام، الذي يربط الماضي بالحاضر، وهو الذي أكسب الأغانى الشعبية مرونة عن طريق الإنتقال الشفهي، أما العامل الثاني فهو التغير الذي يلحق بنص الأغانى الشعبية، أثناء تداولها في المجتمع الشعبي يمكن أن يكون مصدر لهذا التغيير لعدة أسباب لعل من أهمها، الإنتقال الشفاهي من فم إلى فم دون الإعتماد على نص مطبوع مدون، ومن ثم لا تثبت الأغنية على نص معين واحد لا يتغير، وإنما تكون دائماً في حالة تغير، أيضاً صياغة المواد الموجودة في البيئه من قبل، والتي يمكن أن تكون قد بليت وفقدت حدتها بالنسبة للمجتمع، وينشأ الإحساس بضرورة التغيير لكي يحل التعبير الجديد محل القديم، مؤدياً وظائف جديدة يحتاجها المجتمع.

وبالعودة لإستكمال العوامل التى تؤثر في الأغانى الشعبية فى مصر، نجد أيضاً حدوث ذلك عندما ينفصل جزء أو أكثر من أغنيه ليدخل في نسيج أغنية أخرى، وهناك أيضاً ما يفعله بعض مؤلفي وملحني الأغاني المعروفين الآن، من تحوير داخل الإطار التقليدي للنصوص والألحان الشعبية، تؤثر سلباً في استمرارية الأغنية الشعبية.

عن farida fahmey

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *