google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

التنوع والثراء الثقافى واللغوي واللحنى فى الأغنية الشعبية

بقلم / محمد جمال الدين

ترتبط الأغانى الشعبية بالجذور التاريخية للمجتمع بوجه عام وتحولاته المختلفة، كما تبرز خصوصيات ثقافية تعبر في نفس الوقت عن الشخصية النفسية والإجتماعية لسكان المجتمعات المحلية، بإعتبارها وحدات مكانية ذات تنظيم إجتماعي معين ينطوي على روابط وعلاقات مشتركة بين أفرادها، ولقد تجلى هذا المكاني الإجتماعي في تراث مشترك، وخاصة الأغانى الشعبية التي تتميز بعدد من الخصائص الفنية التي تعبر عن الواقع وقدرة المبدعين والمعبرين عن تشخيص أفراحهم، ومن ثم تأتي أغلب الألفاظ معبرة عما يدور بين العامة، ولذا نجد أيضا أن العديد من الألفاظ محلية ترتبط بالخصوصيات الجزيئية للجماعة الشعبية، وهذا يشير إلى التنوع والثراء الثقافى واللغوي فى الأغانى الشعبية، كما أن هناك إرتباط بين عناصر ومكونات تلك الأغانى ومستوى التحضر، إضافة إلى النسق الإجتماعي، إذ أن الأغانى الشعبية تعبر عن شبكة من العلاقات، وتأتي خصائصها الفنية مراعاة لحالة النسق الإجتماعي، إنطلاقاً من أن توحد الأفراد بمجتمعاتهم المحلية ينجم أصلاً عن مشاركتهم في عدد من القيم والمعايير والأهداف المشتركة والمعتقدات، وبالتالي يصبح المجتمع المحلي وحدة ثقافية في المقام الأول، لذا فإن التنوع والتباين فى الأغانى الشعبية رغم ما بين بعضها من تشابه، يرجع إلى تنوع مكونات وروابط كل منطقة جغرافية وإمتداداتها التاريخية، فضلاً عن درجة التحضر التي ترتبط بنسق ومستوى فكري معين.

وتعتبر اللغة ظاهرة إجتماعية تنشأ كغيرها من الظواهر الإجتماعية، فتخلقها في صور تلقائية طبيعية، وتنبعث عن الحياة الجمعية وما تقتضيه هذه الحياة من الشئون، ولم يتفق علماء اللغة على تعريف واحد لها ويعود ذلك بسبب إرتباط علم اللغة بعلوم عدة أهمها، علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم المنطق والفلسفة، البيولوجيا وغيرها، إلا أن جمهور الباحثين يتفقون على التعريف، القائل بأن اللغة ظاهرة بسيكولوجية إجتماعية، ثقافية، مكتسبة، لاصقة ، بيولوجية، ملازمة للفرد، تتألف من مجموعة رموز صوتية لغوية، تستطيع جماعة ما أن تتفاهم وتتفاعل من خلالها، كما يرى بعض الباحثين أن اللغة أكثر من مجموعة أصوات، وأكثر من أن تكون أداة للفكر أو التعبير عن عاطفة، إذ هي جزء من كيان الإنسان الروحي، وأنهاعملية فيزيائية إجتماعية سيكولوجية في غاية من التعقيد .

أما دارسوا الأدب الشعبي فإنهم يرون أن لغته تختلف عن الكثير من تلك التعريفا إختلافا كلياً، إذ أن جهود بعض الباحثين وعلى رأسهم الأخوين جريم منذ (1813م) لم يقتصرا إهتمامهما باللهجات فقط، بل تجاوزا ذلك إلى البحث فى الفنون الشعبية والعادات والتقاليد، وكان الإرتباط المنهجي بين جهودهما في دراسة اللغة والمأثورات الشعبية واضحاً في إطار المدرسة التاريخية المقارنة، فقد كان البحث هادفاً إلى معرفة بقايا التراث القديم في اللهجات والمأثورات المعاصرة، وهي رؤية أتاحت معلومات جديدة مفيدة، وإن تجاوزها الباحثون بعد ذلك بمناهج أخرى، وقد أدى التقدم في علم اللغة أو في الدراسات الأنثروبولوجية والشعبية والأدبية والإجتماعية إلى إهتمام متبادل، إذ لا يمكن إغفال الجهود المبكرة عند تايلور ثم بحوث مالينكوفسكي الهادفة عن طريق بحوث ميدانية إلى بداية وضع نظرية إثنو –لغوية، والواقع اللغوي يعرف في الأدب الشعبي تعدد المستويات اللغوية، فلا يقتصر على تلك الثنائية المتمثلة في الفصحى واللهجات فقط، بل هناك مستويات أخرى عرفتها عدة بيئات، منها عامية المدن، ومنها المستويات اللغوية للأغاني الشعبية.

إن الألفاظ والكلمات التي تستخدم في النصوص الغنائية الخاصة بالأغانى الشعبية متقاربة تقارب شديد للغة الفصحى، مما يوحى في كثير من الأحيان أن الأغانى الشعبية ما هي إلا مجموعة من الكلمات العربية، التي خضعت لبعض التحريف والتشويه، بسبب الإرتباط والإمتداد التاريخي لتطور البنية الإجتماعية، فضلاً عن التعديلات التي تخضع لها الكلمات المستخدمة، نظراً لتناقلها من جيل إلى آخر، الأمر الذي يخضعها لمبدأ الزيادة والنقصان.

وتلتزم الأغانى الشعبيةf نسقاً شعبيا يبعد عن الإلتزام بالنسق اللغوي الصحيح، فمن خلال تلك الأغانى يتبين أنها لا يمكن إدراجها ضمن الشعر العربي الفصيح، نظراً لعدم إستفائها لكثير من خصائص هذا الشعر، وفي مقدمه ذلك عدم إستخدام الحركات في أماكنها، كما أنه ومن الواضح أن إختلال الحركات النحوية والكتابة الخاطئة، لكثير من مفردات الأغنية يرتبط على نحو لا ينفصم بطبيعة الأغانى الشعبية التي تشتق كلماتها كما تنطق من البيئة، ومما يؤكد هذا المنحى هو إستخدام الكثير من الكلمات غير العربية الأمر الذي يزيد من صعوبة تطبيق قواعد اللغة، فألفاظ الأغانى الشعبية هي أكثر إرتباطاً بالإنسان العادي وأكثر تعبيراً عن واقعه، وبالتالي فاستخدماتها المدرجة هي أيضا سمة تتميز بها الأغانى الشعبية التي تجمع بين ثناياها خليط من المفردات التي يستخدمها الأفراد في تفاعلاتهم اليومية.

لا تخلو الأغانى الشعبية مثلها مثل الأغنية المكتوبة بالعربية الفصحى، من إستخدام الأساليب المتنوعة والتحليل الفني للأغاني، إعتماداً على إستخدام الأساليب الخبرية والإنشائية، إذ إن الأغانى الشعبية هي تعبير صادق عن الواقع، لذا تحتوى تلك الأغانى على صورة شعرية رائعة، تحوى أسمى مراتب البيان والبلاغة ففيها الإستعاره والتشبيه، والمبالغة التى هى ركن من أركان الأغانى الشعبية، وإذا كانت بعض أنواع المبالغة مستحبه فإن بعضها الآخر يخرج عن المنطق والمعقول.

ويعد الخيال من بين أدوات التي تمكن الأغانى الشعبية، سواء أكان الخيال إنتاجي أو جمالي فكلاهما يضفى الطابع الفني على نص الأغنية، ورغم أن الخيال فى الأغانى الشعبية يساعد على الإحاطة أكثر بعناصر الموقف الحياتى، إلا أنه يعتبر أداة نظرية منهجية لفهم البناء الإجتماعي، وعليه فإن للخيال أبعاد شخصية ومجتمعية، تمكن كما ذكر سالفاً من تصور وتصوير الواقع وإنتاج خيالى وجمالى، ظهر واضحاً فى الطابع الفنى الخاص بنصوص الأغانى الشعبية .

يتميز الشعر الشعبي عن الشعر الفصيح بأنه لا يتبع عمود الشعر العربي، فالشعر الشعبي يستخدم في فنونه أوزاناً شتى ولايراعي فيها إلا الإنسجام مع الموسيقى والغناء ، فالشاعر لا يؤديه إلا غناء، وبمعنى أوضح فإن هذا الفن لم يؤلف ليقرأ بل ليغنى وينشد، كما أن الشاعر لايغفل ملائمة تلك الأوزان لمعانيه وأفكاره التي يضمنها هذا الفن المغنى، وبنظرة إلى نصوص الأغانى الشعبية نلحظ عدم إنطباق البحور، الطويل، البسيط، الكامل…إلخ، على الأغانى الشعبية، كما إن تطبيق المصطلحات العروضية على الأغانى الشعبية، سوف يقودنا إلى إثارة جملة من القضايا المتعلقة بطبيعة تلك الأغاني الشعبية والأغاني العربية الفصيحة، فضلاً عن أن الأغانى الشعبية تستند إلى الألفاظ الدارجة وغير العربية، الأمر الذي يعوق ضبطها من ناحية الحركات وكذلك كتابة الكلمة، كما إن اعتماد الأغاني الشعبية على الألحان جعلها تبتعد عن أوزان الخليل، إلى جانب تأثير الألفاظ المشتقة من العربية الفصحى في أغلب الأحيان .

تعتبر الأغانى الشعبية من حيث النص عبارة عن كلمات مقفاة تغلب عليها اللغة المحكية، أي اللهجة العامية يكسرها لحن موسيقي بسيط رشيق، وتشكل نصوص الأغاني الشعبية جزءاً هاماً من الشعر الشعبي، وإذا اسقطنا من حسابنا القافية التي تميز الشعر عن غيره من أنواع الأدب، فان كل الصيغ الأخرى يمكن أن يكون لها نظام عروضي واضح ، علاوة على أن الأغانى الشعبية غنية بالإستعارات والكنايات والصور البيانية الجميلة، والمكثفة في كلمات بسيطة، ومن ثم فان النص الشعبي ، واللحن الموسيقي هما وجهين لعملة واحدة فى الأغانى الشعبية، ولاغنى للأغنية عن أحدهما، فالموسيقى تبعث الحياة في الكلمات وتجعلها تتدفق في تناغم جميل، ويشتد الإتصال بين الكلمات واللحن عبر التداول الطويل، بحيث يصعب بل يستحيل الفصل بينهما، وبذلك تشق الأغانى الشعبية طريقاً لها عبر ذاكرة المغنيين والناس على حد سواء، وتتجلى عبقرية المؤدى في إيجاده الصيغة الملائمة، للتوازن بين هذين العنصرين في بناء رائع وبحيث يخدم كل منهما الآخر بالقدر اللازم دون طغيان أو تجاوز، فأغانى الزواج الشعبية من هذه الزاوية هي التزاوج العبقري بين الكلمة واللحن.

ويتميز البناء اللحني للأغانى الشعبية بالبساطة، لكي يجد طريقاً سهلاً بين عامة الناس، ولكي يتناسب مع خبرة المجتمع ومعرفته المتواضعة بالقواعد الموسيقية، إلا أن ذلك البناء اللحنى ورغم بساطته يتميز بالمرونة حتى يسمح للمؤدى الشعبي في كل زمان ومكان أن يسبغ عليه روحه وإلهامه الخاص، وهذا ما يفسر وجود صور متعددة للأغنية الواحدة.

وتعتبر الألوان العاطفية في الأغاني الشعبية متقاربة، إذ أنها نابعة من مصادر متمثلة في العقيدة واللغة، كما أن العواطف الإنسانية الكبرى تشترك بين كافة أبناء المجتمع الواحد، ومن ثم تكون قريبة مما يسمى بالضمير أو العقل الجمعي، أو ما يعرف بالأنا الشعبية الذي تشكله القيم والعادات والروابط الإجتماعية التي تحكمها روابط جغرافية وثقافية نفسية وتنظيمية، إذ أن التفاعل بين هذه العوامل يؤدي إلى تشكيل ظواهر إجتماعية، وعليه فإن الأغانى الشعبية تعبر عن الأنا الشعبية، لذا نجد فيها صدق العاطفة وبساطتها، نظراً لطبيعة الألفاظ المستخدمة وغلبة الطابع الشعبي الموسيقى عليها، غير أنه مع هذه الزيادة التفاعلية بين الأغانى الشعبية والواقع الحالى، وظهور متغيرات ترتبط بالتحولات الإجتماعية، وما ترتب عنها من إختلال في النظم الإجتماعية، أصبحت الصورة التقليدية لتلك الأغانى لا تتلاءم وظروف العصر، كما لا تتلاءم مع خصائص الحضرية كطريقة في الحياة، ولقد قادت هذه الوضعية الجديدة إلى ظهور نمط من الأغانى الشعبية ، يخدم أفراد معينة طلب للعيش والرزق، ولهذا السبب توصف التفاعلات الإجتماعية والإرتباطات، التي تبرزها الأغانى الشعبية في وقتنا الراهن بالسطحية أحياناً والعمق أحياناً أخرى، بصدق العاطفة أحياناً وبالكذب والرياء والبذاءات أحيانا أخرى.

عن emad ahmed

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *