google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

“معجم النيل” عمل موسوعي يرصد “ظاهرة النيل”

كتب- محمد جمال الدين

ضمن مطبوعات دار سما للنشر والتوزيع ، والتى تشارك به فى معرض القاهرة للكتاب فى دورته المزعوم أقامتها خلال أيام ، يصدر أحد الانتاجات العلمية الهامة للدكتور هشام عبد العزيز “معجم النيل” وهو عمل موسوعي يرصد “ظاهرة النيل” بوصفه العمود الفقري الثقافي لدول حوض النيل العشر. محاولا فهم هذه الشفرة الثقافية المركزية، خاصة على المستوى الشعبي، وهو ما يمكن أن يدفع لتدشين تكتل اقتصادي لا شك سيكون له تأثيره الكبير على شكل العالم الجديد اقتصاديا أولا، ومن ثم على المستوى السياسي والثقافي أيضا.

في طريقه لإنجاز هذا المعجم، عمل هشام عبد العزيز في الماجستير على “النيل في المرويات الشفاهية والمدونة”، وأصدر كتابا عن “فولكلور النيل”، وذهب وراء أخبار النهر العظيم كل مذهب: بين مروياته التراثية ورواياته الشعبية في بلاد الحوض العشر. بين احتفالية الآيريشا لعرقية الأورومو في إثيوبيا، وحفائر بربر في الأبيض بالسودان.. بين خليج نابليون ومقياس برتل ومقياس الروضة.. تتبع طواعين وأوبئة مصر بعد الزيادة البالغة للفيضان، وداء “النوام” عند أهالي محلة جنجا في محيط بحيرة فيكتوريا عام 1899م.. ركب قوارب المصريين والسودانيين التي صنعوها على أعينهم و”قلفطوها”، كما استمتع مع الأوغنديين في قواربهم التي حفروها حفرا في جزوع الشجر.

يقول عبد العزيز: “لقد رأيت سكان النيل وعايشتهم في كل أحوالهم؛ إذا حزن أحدهم شرب من البحر، وإذا فرح فإن سعادته (24 قيراط)، إذا جاء النيل زوّجوا أبناءهم وبناتهم، وإذا غاب قرأوا القرآن وصحيح البخاري، إن جاءهم مولود رموا “خلاصه” في مائه الجاري، وإذا مات طلبوا شربة منه قبل أن ينتقلوا إلى العالم الآخر. فيه تسكن الجنيات، وإليه ينجذب المساحير بالأعمال السفلية، وفي مائه العذب لحم طري من البلطي والبِنّي والقراميط. على شطآنه يحتفلون بالوفاء، وشم النسيم، والنوروز، والآيريشا، وعيد الشهيد. لزيادته يلقون العرائس البُكّر، وبزيادته يدفعون الضريبة لحاكم القلعة”.

يؤكد الكاتب أن نهر النيل ليس النهر الأهم في مصر والمنطقة بل وفي العالم كله، ويقول لمن يرى النيل بوصفه مجرد مجرى وظاهرة اقتصادية تطورت في مرات كثيرة لتصبح ظاهرة سياسية: إنه “أبعد من ذلك بكثير، ليس لمصر ولدول الحوض فحسب. وعلى من يراني مبالغا أن مئات الكائنات الحية بين أسماك وطيور وحشرات وقوارض وبهائم وبشر، يعيشون جميعا على النيل وبسببه، ويعانون مع أي تغيير في النهر، وتعاني من ورائهم البشرية بتوازنها البيئي كله، وذلك أنه أيضًا ظاهرة بيئية”.

 

الأهم من كون النيل ظاهرة اقتصادية وسياسية وبيئية، أنه ظاهرة ثقافية مركزية، بل هو بكل بساطة “الظاهرة المنبع”، أو الظاهرة الإطار، لشرق أفريقيا كلها، وأي تغيير في ملامح هذه الظاهرة بأي مستوى، يعني- بلا أي مبالغة- العبث في الصفات الوراثية لهذه المنطقة الجغرافية بكل ما تحمله من أبعاد حضارية.

ولعل هذه الأهمية هي التي كانت الدافع الرئيسي وراء الاهتمام المتزايد من الباحثين والكتاب طوال التاريخ المكتوب للبحث وراء هذا النهر وما يحمله من طاقات وما يثيره من طموحات منها ما هو سياسي وما هو تنموي وغير ذلك..

يقول عبد العزيز: “أما من ناحيتي، فإنه من الضروري الإشارة إلى أن مقولاتي النظرية تطورت كثيرا في فهم ظاهرة النيل في كل مرحلة، فبعد أن كنت أراه مؤثرا في حركة المجتمع المصري اقتصاديا وسياسيا، صرت أرى تأثيره ممتدا في دول الحوض، ومن ثم النظر للنهر العظيم بوصفه أحد شروط التوازن البيئي في الكرة الأرضية، قبل أن أنتهي إلى أن فهما دقيقا لطبيعة شرق أفريقيا من شمالها لجنوبها لن يحدث إلا بفهم ما أسميه ظاهرة النيل سواء على المستوى الجغرافي أو السياسي أو الثقافي وهو الأهم بالنسبة لي”.

لكن هذا التشابك والتعقيد في محاولة الإحاطة بظاهرة النيل، أثرا كثيرا في أن ثمة مغالطات حول نهر النيل يرى المدقق أنها من الكثرة بحيث يبدو أحيانا أن العالم وكثيرا ممن يعيشون على جانبي النهر وفي حوضه لا يعرفون عنه الكثير.

وفي هذه النقطة يشير الكاتب إلى أن “النيل- مثله مثل كل الأنهار العابرة في العالم- نداء طبيعي صارخ لاتحاد سياسي واقتصادي واجب، وعلى الدول العشر لحوض النيل، وكذلك إريتريا التي تحمل صفة دولة مراقب تلبية هذا النداء. وربما تقربنا بعض الأرقام البديهية من أهمية وضرورة مثل هذا الاتحاد/ الشراكة:

• مساحة دول حوض النيل نحو 9 ملايين كيلومتر مربع، وهي مساحة لا تتوفر إلا لعدد قليل جدا من دول العالم.

• عدد سكان دول الحوض نحو 500 مليون نسمة. وهو تعداد لا يتوفر إلا لعدد قليل جدا من دول العالم.

• غالبية سكان دول الحوض من الشباب وهو ما لا يتوفر لكثير من دول العالم.

• موقع جغرافي هو الأكثر تميزا، حيث يربط بين العالمين القديم والجديد، وبين شرق آسيا وأوروبا، وبحدود بحرية تزيد على نحو 4 آلاف كيلومتر، بين البحر الأبيض والبحر الأحمر والمحيط الهندي.

• موارد مائية وطبيعية ليست موجود في أي مكان في العالم.

• خط مواصلات (سكك حديدية) يربط أقصى نقطة في جنوب هذا الكيان بأقصى نقطة في شماله، وهو خط سكك حديد القاهرة- كيب تاون، أي إن صانع الفخار في جنوب حوض النيل يمكنه أن يصل بمنتجاته إلى جنوب أوروبا. ولا يحتاج مثل هذا الخط الحديدي سوى بعض التوصيلات بين الدول فكثير من قضبانه ما زالت موجودة حتى الآن.

هذه فقط بعض المؤشرات البديهية التي تؤكد أن كيانا سياسيا واقتصاديا يرتبط بنهر النيل لن يكون كيانا ناجحا فقط بل سيغير من طبيعة المعادلات السياسية والاقتصادية في العالم. ولعل لمثل هذا الكيان الضروري أن يحتمي بنهر النيل بوصفه شريانا ثقافيا واجتماعيا رابطا بين سكانه وضامنا لاستمراره.

ولعل من المفيد هنا أن نشدد على أن نهرا في أهمية ومركزية نهر النيل بالنسبة لدوله وللعالم، لا يمكن أن يكون ملكا لدولة من دول حوضه ولا حتى لدول الحوض مجتمعة

وفي هذا السياق، يتعرض عبد العزيز لمقولة “مصر هبة النيل”، ويرى أنها لا تصور طبيعة العلاقة بين النيل ومصر، ولا تكشف مدى ما بذله المصريون في سبيل تعظيم الاستفادة من نهرهم العظيم، ويكفي أن ننظر إلى النهر نفسه في بقية دول الحوض العشر، ورصد ما تم عليه وحوله وبه، لنعرف حجم ما قدمه المصريون.

لقد شق المصريون أكثر من 33 ألف كيلو متر من الترع والرياييح في طول الوادي الخصيب وغير الخصيب، أي إن المصريين حفروا أكثر من 33 نيلا إلى جوار المجرى الطبيعي في بلدهم، هذا بالإضافة إلى سدين كبيرين وعدد من القناطر، وكثير من المصارف. ولو أنهم تركوا النهر على علاته ما كانت البشرية قد عرفت حضارة بأهمية وثراء الحضارة المصرية القديمة.

ويشرح الكاتب ما أضافه المصريون لتعظيم الاستفادة من النهر عبر عناصر المعجم التي تزيد على 850 مادة. لكنه يلفت إلى أهمية ما يسميه الباحثون في مجال المياه: “التحاريق”، وهي الحد الأدني الذي يصل إليه مستوى الماء في النيل خلال العام وتبدأ أيام التحاريق من نهاية الفيضان حتى بداية الفيضان التالي.. ومستوى الماء في النيل أيام التحاريق بين أربعة أذرع وسبعة أذرع. وقد تمتد لأكثر من ستة أشهر.

يقول هشام عبد العزيز: “تجدر الإشارة هنا إلى أهمية أيام التحاريق في سيرة حياة النيل، فلولا هذه الأيام ما كان لكثير من المشاريع المهمة أن تتم، يكفي أن نذكر مثلا أن مقياس النيل في جزيرة الروضة، أو المقياس الهاشمي كما يسمى بني في فترة التحاريق، حيث يكون الماء في أقل مستوى ممكن مما يمكن البنائين والمهندسين من العمل قبل زيادة الماء بقية أيام العام.

كما أن بحر يوسف وفقا لمرويات كثيرة تم حفره في فترات التحاريق، ويرتبط تطهير المجرى والترع والرياييح كذلك بالتحاريق، أو تحاريق النيل، قبل بناء السدود، وأثناء السدة الشتوية بعد ذلك.

يشير ما سبق إلى أن التحاريق هي التي علمت المصريين معنى الانتظار الإيجابي، الانتظار الذي يصنع الحضارة، عن طريق مراقبة النهر وتطويعه وتجهيزة؛ وكل ذلك لا يتم إلا في التحاريق.

ولعل من الإنصاف هنا أن نشير إلى أن أكثر شعوب وادي النيل احتراما لفترة التحاريق هم الشعب المصري، وهو ما يبدو من كثرة المشاريع التي شيدوها على النيل وبسببه، وكثرة العلوم التي “اخترعوها” من مراقبتهم لنهرهم العظيم.. ولهذا لم يكن مستغربا وجود هذه الكثرة من المعارف التقليدية التي خبرها المصريون بسبب وجود النيل من رفع المياه يدويا بالشواديف والسواقي- وخبرتهم في تنقية المياه عبر بذور المشمش– والمعارف الجغرافية والنباتية والحيوانية- ومنظومة المعارف الرياضية المرتبطة بالمقاييس– ومراقبة الكائنات والطيور– وعلاج بعض الأمراض الجلدية، والحصبة أو الجدري الكاذب. وكلها خبرات ارتبطت بنهر النيل ومائه”.

وفي ضوء النظر إلى نهر النيل ثقافيا، يطرح عبد العزيز ما سماه “ثقافة النيل”، ويقصد: “القواسم الثقافية المشتركة التي يمكن الاعتماد عليها عند التأسيس لأي كيانات سياسية تشترك فيها كل أو بعض دول حوض النيل العشر، فعن طريق هذه القواسم الثقافية المشتركة يمكن توثيق أية روابط أخرى للوقوف أمام محاولات متوقعة من أطراف أخرى لضرب هذا التكتل المقترح، لما سيمثله من آثار على شكل التوازنات السياسية والاقتصادية عالميا”.

وبسبب هذا التفرد المصري في التعاطي مع نهر النيل- يقول عبد العزيز: “كان تفردهم كذلك في التعاطي معه ثقافيا في ملامح تخصهم وحدهم برغم اشتراكهم مع بقية دول الحوض في ملامح ليست قليلة. لكن هذا التفرد جاء بسبب ما بذلوه من جهود لتطويع النيل وتعظيم الاستفادة منه، فلأنهم مثلا شقوا الكثير من الترع والرياييح ظهرت في أدبياتهم مصطلحات مثل البحر والبحر الكبير، فليس كل مجرى بحرا، وليس كل بحر بحرا كبيرا؛ فالمصريون يقولون البحر والبحر الكبير إشارة إلى المجرى الأساسي للنهر، لكنهم قد يقولون البحر للترع الكبيرة المتفرعة من المجرى الرئيسي. أما إذا قالوا البحر الكبير فإنهم يقصدون أصل مجرى النهر فقط وليس الترع التي تتفرع عنه.

وحول تنفيذ هذا المعجم يؤكد المؤلف أن “محور هذا المعجم هو الثقافة الشعبية، فالهدف الأساسي من هذا المعجم رصد الأبعاد الثقافية لنهر النيل شعبيا، وكانت البداية من مصر، لكنني بعد أن بدأت وجدتني أُجرُّ جراً لرصد كثير من الملامح الشعبية للنهر في دول الحوض، وهو ما استهلك كثيرا من الوقت والجهد”.

ويضيف: “هنا ينبغي أن أشير إلى أنني حاولت مرارا السفر إلى دول الحوض لأكون قريبا من النهر ومواطنيه وحرفه ومعتقداته وعاداته في هذه الدول كما في مصر، لكن الظروف حالت دون ذلك، فلم أجد بدا من الاستعاضة عن ذلك ببطون الكتب وفيديوهات مواقع التواصل الاجتماعي وصفحاتها والقنوات التلفزيونية الأفريقية لدول الحوض والأخبار والمقالات الصحافية. وعلى الرغم من أن هذه المحاولات آتت ثمارا كثيرة لكنها لم تكن كافية، لكنني كنت قد وصلت إلى ما يصل إليه كل من يتصدى للأعمال الكبيرة وهو الاحتماء بقاعدة أن مثل هذه الأعمال مهما اكتملت فإن سمتها الأصيلة هي النقصان.

ورغم هذا النقصان الذي أشعر به فإن صفحات المعجم ومواده احتوت على كثير جدا من العناصر التي توزعت على دول الحوض العشر بشكل يساهم بلا جدال في رسم صورة النيل في هذه المجتمعات.

تجب الإشارة أيضا إلى أن العناصر غير الثقافية في هذا المعجم لم تكن مقصودة لذاتها بل إن الاهتمام بها جاء للمساعدة في فهم أكبر لظاهرة النيل على المستوى الثقافي الذي لا يكتمل في أحيان كثيرة إلا بمعرفة نسبية بالمستويات الأخرى للنيل إذ إنه ظاهرة إطارية مهيمنة على كل أشكال الحياة وأنشطتها”.

ويحتوي المعج على 865 مادة متنوعة حاولت الإحاطة بـ”ظاهرة النيل” ثقافيا. من بينها: آيريشا- الإبليز- أبو الرداد- أبو الركب- أبو المي- احسب حساب المريسي وان جاك طياب من الله- أربعة وعشرين قيراط- أرض الحيات- أرض الراهب يوحنا- أرفف التجفيف- أريجرا- الاستحمام في النيل- باب البحر- بحيرة موريتانيا- بذور المشمش- برقع النيل- تحنيط التماسيح- التخليق- ثلث الخراج- الجاغوص- جبل قاف- جبل هيكل الصور- جسور النيل- حايد بن أبي سالوم- خدم المقياس- الخرطوم- خزان جبل الأولياء- خليج نابليون- الدوجري- الرعادة- الريس في حساب والنوتي في حساب- زمتة النيل- ستر المقياس- سحر النيل- سيدي مبارك بومباي- شجرة المندورة- شيخ المنادين- الشيخة مريم- طلسم النيل- عدم شرب مياه النيل- العمى- عيد الشهيد- عيد الصليب- فسقية المقياس- اللشك- لصوص النيل- اللغات النيلية- ليلة النقطة- الملاك ميخائيل- ملائكة البحر- المينجي- النهر العجوز- النيل المقطر- وحم النيل- يوم الجبر- يوم تكسير البصل. وغيرها.

يذكر أن د. هشام عبد العزيز باحث متخصص في الدراسات الشعبية، وقد صدر له عدد من الكتب الموسوعية والمعاجم والدراسات، والمخطوطات المحققة، منها: “معجم التحفة الوفائية في العامية المصرية”. و”ألف ليلة وليلة.. حكايات أخرى”. و”فولكلور النيل”. و”فضل الخرافة”. و”السير الشعبية.. جدل النوع وجغرافيا التداول”. كما صدر له بالإنجليزية “موسوعة كورونا.. قصة نهاية نظام عالمي”. وغيرها.

عن salwa mohsen

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *