google-site-verification=e2DmWX0gwfReVFQpzcu4ly1zLPF-RUvuc6uHqoZo_ik

زوجة الشهيد هيثم فتحى :” كان يعشق الشهادة ويتمناها فى تراب سيناء” ( حكايات الولاد والأرض )

بقلم – الكاتب محمد نبيل نبيل :

مابين قضبان السكة الحديد الممتدة ناحية الأمل والنيل الجارى بالحكايات والاحلام, هذا النيل الذى مازال شاهدا على اول لقاء بيننا, كان لقاء غير مرتب, وكانت اصوات اقتراب صافرات القطارات والتى تدلل على توقيتاتها هى أيضا مواقيت اللقاء المرتقب, ومع بدايات ساعات النهار كان اليوم الاول من الدراسة بكلية الهندسة بجامعة المنيا , كنت اقرأ فى روايات احسان عبد القدوس عن الحب من اول نظرة وككل البنات كنت احلم به رغم قيود العادات والتقاليد لدينا فى صعيد مصر, لكنها بارقة امل كانت تتسرب الى عندما كنت اعاند تلك التقاليد متكئة على بلدى (عروس الصعيد) يكفيها هذا الاسم المكنية به ليكون عندى بعض الامل, وزاد الحلم صعوبة ان كان بطله فارس يأتى على صهوة جواده ويطلب يدى, ويبدو اننى مرضت بأحلام اليقظة المستحيلة وكان فى مقابلة هذا المعنى : بالحب من اول نظرة, وزاد المستحيل تعقيدا ان يكون بطله فارسا, فى النهاية هى احلام, مجرد احلام لا استطيع منعها , فهى القادمة من مناطق اللاوعى فكيف لى التحكم فيها ومحاكمتها على زيارتها لى من آن لآخر, وهى ضيفتى المحببة والتى تأتينى – بكرم- بما اتمناه وان كان مستحيلا, ومع رقرقة ماء النيل الصافى وتهدل هذا القطار الذى اتفق معى على الوصول الى الجامعة فى الثامنة من صباح كل يوم كنت اسمع منهما سيمفونية عذبة تجعلنى مفعمة بحالة حالمة ومنطلقة, وايضا متفائلة ولا اعلم سببا منطقيا أوعلميا لما انا عليه كل يوم, لكننى اعلم ان الاحلام لا تؤمن بالمنطق ولا تنتهج العلم, هى فقط من صنع الخيال, وما اجمل احلام نسجها خيال البراءة والبدايات.
وتقاطعت نظرة منه على جدول المحاضرات الذى كنت انتظر الاعلان عنه بشغف لم يكن سببه – فقط- الانتظام فى الدراسة, بل ايضا كنت استشعر ان فى بداياتى بالكلية ستحمل لى مفاجأة, وما ان انتهيت من تدوين جدول المحاضرات والتفت على يسارى ناحية الفؤاد الذى كان مازال فارغًا, حتى امتلىء بصورته, هو من كنت احلم به, وهو من كانت تصفه لى صديقاتى الاحلام, سرحت طويلا, لعدة سنوات, حتى روحت معه وغدونا نبنى بيتا… ونزرع طفلا … وأشياءً جميلة, وشيئا ما كان صعبًا!… حدثنى طويلا عن احاديث كنت ارشف منها السعادة, الا حديثا واحدا علمت منه عشقه لأخرى تدعى (سيناء), ولا اعلم لماذا وافقت على هذا الشرك؟!, لكننى فى استسلام غريب, رضيت!, ووجدتنى قد عدت من حصائد الاحلام, تلك التى لا تتحقق أبدا – كما بدأنها- , عدت بتلك النظرة الطويلة لهذا الفارس, … وحيدة! ليس معى سوى فؤاد قد عاد -هو الاخر- فارغا وقد فارقه قلبه, ليتها تلك الاحلام الحُبلى بالحزن لم تزورنى, ولم تصادقنى, وليتنى رضيت بعادات وتقاليد بلدتى!.
كبراعم العشب الصغير, التى مازالت فى مهدها, لا تقوى على مداعبة النسيم – حتى – ولم يحملها ساق او جذر بعد, شابة صغيرة جدا على ان تحمل فى داخلها كل هذه الاحلام الموؤدة, وتلك الاحداث السافكة للأحلام! بطلة رغم ارادتها ورثت البطولة من امهاتها سيدات الصعيد , البطلة سمر زوجة الشهيد هيثم فتحي محمد احمد تحكى عن حبها الموؤد من أول نظرة:” هيثم وُلد في 28 فبراير 1991فى قرية صفط الخمار من محافظة المنيا , وكأبناء الصعيد المهاجرين مع اسرهم منذ سبعينيات القرن الفائت لكسب رغد العيش بعيدا عن شظفه فى الصعيد الحار!, فقد عاش هيثم طفولته كلها في السعودية مع والده ووالدته واخواته, والده كان يعمل هناك بشهادته بكالريوس التجارة, ووالدته مدرسة لغة انجليزية, وهيثم اكبر اخواته ويليه ولدين هما: محمد واحمد, ثم اخته الصغرى.
عاش حبيبى هيثم طفولته في السعودية, ودرس المراحل الابتدائى, والاعدادى, والثانوى هناك, وكان متفوق جدا, ومتميز من طفولته المتقدة, ودائما ما كان المركز الاول هو نصيبه الذى واظب فى الاجتهاد اليه, واعتاد الاخلاص فى البذل فى كل اعماله وافعاله, وحفظ القرآن الكريم, وعاد الطير المهاجر بعد قرابة الثمانية عشر عاما الى عشه بصعيد مصر بالمنيا, ورغم بعاده عن وطنه الا انه مازال يحمل فى داخله صفات الفروسية – التى كنت احلم بها- فجاء ليحقق حلمه الاول وهو الالتحاق بالكلية الحربية فكان حلمه أن يكون ظابطا بالجيش, لكن ليست الاحلام التى نبدأها تتركنا نُهيها كما اردنا! فتقدم الشاب واجتهد فى اجتياز الاختبارات ورغم تفوقه الدراسى ولياقته البدنية العالية فكان محترف برياضة كرة القدم , ولم يكن يؤديها كبقية الآخرين للتسلية أو لملىء أوقات فراغه بل لانه يجيدها باقتدار وفيما بعد كان عضوا بالفريق الاول لنادى المنيا الرياضى, وهكذا كنت اراه قادرا على فعل كل شىء بنجاح, الا انه الحظ والنصيب – كما يقولون عندما تُعارضنا الاحلام فى تحققها- فلم يكن له نصيب فى الالتحاق بالكلية الحربية, ولأن مجموعه كان كبيرا لتفوقه الدراسى, التحق بهندسة جامعة المنيا, وانضم لقسم الهندسة الكيميائية, وتفوق فيه على أقرانه كما اعتاد!, وكان من دفعتى فى الكلية, ومن هنا بدأت قصة الحب, من النظرة الاولى , ورغم انه لم يكن فارسا – حينها – الا ان حديثه عن القوات المسلحة – بفخر – ورغبته بالالتحاق بالجيش حتى بعد ان ينهى دراسته – فقط – كل هذا جعله فى نظرى (فارساً).
وقبلت بخطبته قبل انتهاء الدراسة بالكلية – لانه الحب الذى يتخطى الحواجز التقليدية – وتم عقد القران بهدوء وتفاهم من كلينا ومعنا الاسرتين , فى حالة من الرضى التام,وكان ذلك بعدما حصلنا على بكالوريوس الهندسة 2014
ولم يمض على الزواج سوى شهرين, ثم جاء الاختبار الثانى فى اكتشاف صلابة ومتانة هذا الحب العصى, وكان توقيت آداء الخدمة العسكرية, وتقدم حبيبى ليكون من الضباط الاحتياط, ورفض محاولات اسرتينا فى تحويله لمجند, وأصر على ان تكون خدمته كضابط احتياط من شدة حبه فى الجيش, وفعلا قُبل ترشحه, وانضم لكلية الضباط الاحتياط بفايد, وكنت ازوره فترة المستجدين مع اسرتينا, وكم كنت مسرورة لسعادته بكونه حقق بعضا من حلمه, ما أقسى تلك الاحلام التى تحاصرنى!
ومضت الأشهر الست سريعا وتخرج بعدها حبيبى ملازم احتياط دفعة 147 والتحق بسلاح المهندسين العسكريبن وتم توزيعه على وحدة ازالة الغام بجنوب القاهرة, وترقى لرتبة الملازم أول فى كتيبته, وبعد عدة أشهر بدأت مأموريات سيناء لازالة الألغام من الطرقات الرئيسية والمدقات الفرعية التى كان التكفيريون يزرعونها فى الطرق المحتمل مرور عناصر الجيش عليها.
وتدرب علي ازالة الالغام ونال فرق متقدمة فى اكتشاف وازالة وتفكيك الالغام وايجاد جلول سريعة وعلمية لتفكيكها, وابطال مفعولها, ولذكائه المتقد كان سريع الاستيعاب لانواع الالغام المختلفة البدائية التقليدية منها والمعقدة المتطورة, والتى تشى عن ان هؤلاء التكفيريين ما هم الا مجرد ادوات وعملاء لاجهزة مخابراتية متقدمة! وهكذا كانت تحليلات حبيبى لى عندما يتحدث عن بعض عمله – وبحذر – عن سيناء شريكتى فى حبه التى ارتضيت بها.
فى البداية كانت مأورياته برفح واتنقل الى اماكن مختلفة وعديدة منها عند المعبر الاول, وبعدها عند الساحة, وغيرهما, وهو- طبعا – لم يكن يتحدث كثيرا عن تفاصيل مأمورياته فى سيناء التى زادت فى الفترة الاخيرة نظرا لاتقانه عمله فى ازالة الالغام.
حبيبى هيثم كان بصفة دورية أو تقريبا يوميا يخرج مع زملاءه فى مهام تمشيط الطرق لاكتشاف الالغام وابطالها, وفى بعض الاحيان يتطلب الامر السير لمسافة 40 كيلومتر, وكان يقوم مع قادته وجنوده بمداهمات وكمائن ناحية الارهابيين, وكنت استشعر انتصاراته من نبرة صوته عندما يتحدث الى فى التليفون واعلم دون ان يصرح هو بانه شارك فى القبض او قتل العناصر التكفيرية, او كان سببا فى حفظ ارواح رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، كانت فرحته وسعادته عندما يقتل هؤلاء التكفريين انتقاما لزملائه وفرحته الاكبر عندما يكون فى مداهمة مع جنوده وزملاءه ويرجعوا بالسلامة دون ان يستشهد او يصاب منهم احد, وكنت اعرف حزنه الشديد عندما يستشهد احدا من جنوده او قاداته او زملاءه, حتى انه كان يبكى عليهم كالطفل, ولا يسكت بكاءه الا عندما يقسم ان يثأر للشهداء او يلحق بهم, وتلك كانت الجملة التى لم اعتاد سماعها من قبل , لكنها كانت لى مدوية وقاتلة, وتساءلت: هل هو بحق يسعى للشهادة, وانا اعلم عنه انه يفعل دائما ما يريد ويجتهد فى سعيه لهدفه, فلم اذق للنوم طعما بعد حديثه الاخير عن الشهادة, ولكن غرسنا وزرعنا ابننا آسر ما زال لم يكمل عامه الاول بل لم ينتصف هذا العام بعد, ماذا افعل ؟ أمام هذا الطموح الذى يحلم به حبيبى ؟ وعهدى بالاحلام ان كثيرا منها ما يتحقق, اذا صدقت النوايا وصفت السرائر.
هيثم حبيبى كان يعشق الجيش المصرى, وكان يخطط لالتحاق بالكلية الحربية من جديد ضمن اعلانها عن دفعة جديدة من الضباط المتخصصين, ودائما ما يقول عنه: من احسن جيوش العالم, ويا ويل من كان يتفوه ببنت شفاة عن معشوقته سيناء التى يغار عليها علانية جهارا.
عاد هيثم حبيبى للعربش فى منطقة بئر لحفن لمدة اسبوعين, ثم جاءنى فى اجازة, وفى هذه الاجازة تقريبا لم يترك بيت لقريب او صديق الا وزاره, سبحان الله كأنه يودع احبابه ومعارفه.
وبعد اسبوع غادر المنيا الى سيناء التى كان يجهز لها حقيبته من ليلة السفر مبكرا وتفضحه علامات النشوة والسعادة كطفل عائد لامه,
وفى اثناء وجوده في رفح مر بظروف صحية اضطرته لاجراء عملية جراحية, نال على اثرها اجازة لمدة شهر, وكان من المفترض عودته من مأموريات سيناء نهائيا الى جنوب القاهرة فى حلوان بكتيبته الاساسية , لكن لأمرين, الاول: حبه الشديد لسيناء ورغبته فى الثأر من التكفيريين, والثانى: خبرته الكبيرة فى ازالة الالغام , وهذا ما صرحه لى ,لكننى كنت اعلم ما يسره ويكتمه عنى هذا الفارس الذى اجتهد فى نيل الشهادة حتى انه كرر فى التليفون لاصحابه ولم يعلم بسماعى لمكالمته معهم ,انه: “حزين على عدم لحاقه بالابطال فى سيناء, وانه يحلم بالشهادة ولا يستطبع العودة للقاهرة ولن تمنعه تلك العملية الجراحية من تحقيق حلمه”.
كان كل امنيته يشوف ابنه, وعندما كنت حامل فيه, وربنا حقق له حلمه, واسماه آسر, وهذا الطفل لم يكتب له ان يدرك اباه فقد استشهد حبيبى هيثم وآسر عمره 6 أشهر.
حبيبى هيثم لم يكن له مثيل فى حنيته, وطيبة قلبه, وحبه لكل الناس, وكان بيتمني الخير لكل من يعرفهم ومن لا يعرفهم, حبيبى هيثم كان يٌضرب به المثل فى الاخلاق, والاحترام, ولم اعهده ولو لمرة واحدة تحدث بسوء عن احد الا هؤلاء التكفيريين لانهم نجسوا سيناء وكانوا سببا فى استشهاد ابناء وطنه, وهكذا كان يقول عنهم. ولم اعهده ولو لمرة ان يأذى أحدا -ابدا – حتى لو بكلمة, وكان يحترم الصغير والكبير, وكان محافظ على صلاته, ودائما فى اوقاتها, ولم يفارقه المصحف قط, حتى قبل استشهاده كان دائما في المسجد يصلى, ويقرأ القرآن بعد ما ينهى عمله, حبيبى هيثم كان دائما راضى بقضاء الله من كل قلبه بإيمان قوى , كنت اراه – فعلا – ملاك يمشى علي الارض.
لكنها الاحلام لا تحقق كاملة كما نريد فقد ابت الا ان تمنعنى من حياة كنت احلم بها مع فارس احبه من اول نظرة , وانفجر الحلم وتلاشى كغبار وتبدد كله الا الحزن منه وحده هو ما تبقى ، واثر انفجار عبوة ناسفة اثناء تمشيط فارسى لطريق متوقع زرع الغام به , واستشهد في يوم الثلاثاء 9 اغسطس 2016ارتقت روحه الطاهرة كما اراد من سيناء ووسط احبابه من الجيش والى احبابه ممن سبقوه بالايمان, وعاد الحلم ملفوفا بعلم بلاده يرقد فى قريتنا الصغيرة صفط الخما التى وسعها بقلبه المحب, وترك لى صورة قبل عودته من اجازته الى سيناء مع ابنه اسر لتكون اخر ما تبقى لى منه فارسى الذى احببته من اول نظرة.

عن admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *